هـــــــذا القــــــــــــــــرأن

هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة هو روحها وباعثها وهو قوامها وكيانها وهو حارسها وراعيها وهو بيانها وترجمانها . وهو دستورها ومنهجها . وهو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة - كما يستمد منه الدعاة - وسائل العمل  ومناهج الحركة وزاد الطريق .

ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا  ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية  ذات وجود حقيقي  ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة  ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض  وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك . معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات .

وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن  طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة  لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان  والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين ! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية  ذات كينونة واقعية حية  ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا  نشأ عنه وجود  ذو خصائص في حياة "الإنسان" بصفة عامة  وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص .

ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة  في فترة من فترات التاريخ محددة  وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها  ولكنه - مع هذا - يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة  وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية  وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها  وفي معركتها كذلك في داخل النفس  وفي عالم الضمير  بنفس الحيوية  ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك .

ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة  وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة  ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل . . ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة . . كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة  وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها  وتتصارع مع شهواتها وأهوائها ويتنزل القرآن حينئذ ليواجه هذا كله  ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة : مع نفسها التي بين جنبيها  ومع أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما . . وفيما وراءهما كذلك . .

أجل . .  يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى  ونتمثلها في بشريتها الحقيقية  وفي حياتها الواقعية  وفي مشكلاتها الإنسانية  ونتأمل قيادة القرآن لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية وفي أهدافها الكلية على السواء  ونرى كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة وهي تعثر وتنهض  وتحيد وتستقيم . وتضعف وتقاوم . وتتألم وتحتمل . وترقى الدرج الصاعد في بطء ومشقة  وفي صبر ومجاهدة  تتجلى فيها كل خصائص الإنسان  وكل ضعف الإنسان  وكل طاقات الإنسان .

ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة الأولى . وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها  تملك الاستجابة للقرآن  والانتفاع بقيادته في ذات الطريق .

إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى  ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا . وسنحس أنه معنا اليوم وغدا . وأنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهومة بعيدة عن واقعنا المحدد  كما أنه ليس تاريخا مضى وانقضى وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية .

إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته . الكون كتاب الله المنظور . والقرآن كتاب الله المقروء . وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع  كما أن كليهما كائن ليعمل . . والكون بنواميسه ما زال يتحرك ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه . الشمس ما زالت تجري في فلكها وتؤدي دورها  والقمر والأرض  وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها  وجدة هذا الدور في المحيط الكوني . . والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية  وما يزال هو هو . فالإنسان ما يزال هو هو كذلك . ما يزال هو هو في حقيقته وفي أصل فطرته . وهذا القرآن هو خطاب الله لهذا الإنسان - فيمن خاطبهم الله به . خطاب لا يتغير  لأن الإنسان ذاته لم يتبدل خلقا آخر  مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله  ومهما يكن هو قد تأثر وأثر في هذه الظروف والملابسات . . والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير  ويملك أن يوجه حياته اليوم وغدا لأنه معد لهذا  بما أنه خطاب الله الأخير  وبما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة متحركة بدون تبديل  .

وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا : هذا نجم قديم "رجعي  ؟ " يحسن أن يستبدل به نجم جديد " تقدمي ! " أو أن هذا "الإنسان" مخلوق قديم "رجعي" يحسن أن يستبدل به كائن آخر " تقدمي" لعمارة هذه الأرض !!!

إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك  فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن . خطاب الله الأخير للإنسان .

ومن مراجعة نصوص القرآن يتبين أن الوسائل هي الوسائل  والأهداف هي الأهداف . ويتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة  ومرجع هذه الأمة - اليوم وغدا - كما كان قرآنها ومرجعها بالأمس في نشأتها الأولى . وأنه لا يعرض عن استنصاح هذا الناصح واستشارة هذا المرجع في المعركة الناشبة اليوم إلا مدخول يعرض عن سلاح النصر في المعركة  ويخدع نفسه أو يخدع الأمة لخدمة أعدائها القدامى المحدثين في غفلة بلهاء أو في خبث لئيم !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

AddThis