الصفة الثانية من صفات الطائفة المنصورة



 
الجهاد فى سبيل الله

 
 منقول عن الشيخ عبدالمنعم مصطفى حليمة

وهي الصفة الثانية من صفات الطائفة الظاهرة المنصورة وهي صفة تكاد تُعرف بهم ويعرفون بها ملازمة لهم ملازمة الظل للظليل لا تنفك عنهم في أي حال من الأحوال وإذا ما حيل بينهم ـ لظرف طارئ ـ وبين الجهاد في سبيل الله ترى همهم وشغلهم الشاغل العمل من أجل إزالة هذا الحائل والمانع ليستأنفوا القتال والجهاد في سبيل الله من جديد .

تراهم يتتبعون الثغور والجبهات .. فإن أغلق ثغر .. فتحوا ثغراً آخر لإحياء فريضة الجهاد في سبيل الله .

تظهر هذه الصفة فيهم ظهوراً جلياً واضحاً ـ يخرس ألسنة كل جبان خوار ـ في قوله صلى الله عليه وسلم واصفاً حالهم:( لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم  من خذلهم حتى تقوم الساعة ) .

وفي قوله صلى الله عليه وسلم:( لن يبرح هذا الدين قائماً يُقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ) .

وفي قوله صلى الله عليه وسلم:( ولا يزال من أمتي أمة يُقاتلون على الحق ).

وفي قوله صلى الله عليه وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة ). وغيرها من الأحاديث العديدة التي تقدم ذكرها .

وكذلك في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( المائدة:54.  فهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله  لومة لائم وهذا عين ما وصفت به الطائفة المنصورة في الأحاديث الآنفة الذكر .

وقال تعالى:) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) آل عمران:146 .

فالربيون هنا هم الطائفة المنصورة الذين لا يعرفون الوهن والاستكانة وهم صفوة الأمة من العلماء العاملين المجاهدين .

قال البغوي:( فما وهنوا) أي جبنوا  ( لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا) عن الجهاد بما نالهم من ألم الجراح وقتل الأصحاب( وما استكانوا) قال مقاتل: وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم وقال السدي: وما ذلّوا وقال عطاء: وما تضرعوا [ أي ما تضرعوا بالشكوى إلى المخلوق سوء حالهم ولا استعطفوا الناس لنصرتهم .. ومنه نعلم أن هؤلاء الذين يستجدون الحقوق بالشكاوى ـ التي ملت منها الآذان ـ على عتبات الأمم الظالمة .. والطواغيت الظالمين .. أنهم من أبعد الناس عن صفات وأخلاق الطائفة المنصورة!] وقال أبو العالية: وما جبنوا ولكن صبروا على أمر ربهم وطاعة نبيهم وجهاد عدوهم  والله يحب الصابرين) [التفسير: 1/ 360].

وكذلك قوله تعالى: ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران:104.

فالأمة هنا هم طليعة الأمة الكبرى وصفوتها ..هم الطائفة المنصورة الذين يتصدرون للمهام العظام فيقومون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكونهم ينهون عن المنكر يعني ذلك أنهم من أهل الشوكة والقوة ولديهم من السلطة والمنعة ـ وإن لم تكن رسمية معترف بها من قبل الظالمين ـ ما يمكنهم من تغيير المنكر لأن من لوازم تغيير المنكر استيفاء القوة التي تردع أهل المنكر عن منكرهم بخلاف الأمر بالمعروف أو الدعوة إلى الخير فإنها أحياناً لا تستلزم القوة المادية.

وفي هذا يقول سيد قطب رحمه الله: لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته فهناك( دعوة ) إلى الخير ولكن هناك كذلك ( أمر) بالمعروف وهناك ( نهي ) عن المنكر وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان فإن الأمر والنهي لا يقوم بهما إلا ذو سلطان[الظلال: 1/ 444]ا- هـ. والسلطة والقوة ـ كما تقدم ـ هي من أخص خصائص الطائفة المنصورة .
صفات فرعية تتفرع عن صفة الجهاد
 


تتفرع عن صفة الجهاد في سبيل الله 
التي تتحلى بها الطائفة المنصورة 
عدة صفات نجمل ذكرها في النقاط التالية

أولا : استمرارية وجود الطائفة المنصورة المجاهدة في كل زمان إلى أن تقوم الساعة بحيث لا يخلو زمن من وجود أثر لهذه الطائفة والذي يقرر ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق .. حتى يأتي أمر الله ). وفي رواية :( لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الحق .. حتى يأتيهم أمر الله ). وفي رواية:( لن يزال قوم من أمتي ظاهرين .. حتى يأتيهم أمر الله ). وفي رواية:( حتى تقوم الساعة ). وفي رواية:( إلى يوم القيامة ). وفي رواية:(حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال ) .

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:( لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته ) [صحيح سنن ابن ماجة: 8 ، وقد تقدم]. فهذه صيغ كلها تفيد الاستمرارية والبقاء .

وهذا أمر ـ لا شك أنه ـ يبعث على الطمأنينة والسرور ويلقي في النفوس الأمل  على أن الخير في هذه الأمة باق ولن يزال وأن نصر الله وفرجه آت ولو بعد حين .. وأن ظلام الليل إلى أفول مهما طال الصباح .

ويدل كذلك أنه مهما حاولت أيدي الطواغيت الظالمين على إفساد الأجيال وإبعادهم عن دينهم .. فهي تحاول عبثاً لأن الله تعالى ـ قد تكفل أن ـ يُخرج من هذه الأجيال غرساً يوحدون الله تعالى .. يحفظ بهم الدين ويستخدمهم في طاعته ونصرة دينه .

فالله تعالى قد تكفل بحفظ دينه كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الحجر:9.   ومن حفظه تعالى لدينه أن يغرس الغرس من المؤمنين المجاهدين الذين يحفظ بهم الدين .

كما في الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( إن الله يبعثُ لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنة من يجدد لها دينها )[صحيح سنن أبي داود:3606]

فالله تعالى يحفظ الدين ويجدد للأمة دينها .. على مر العصور .. بجند يحفظ ويجدد بهم الدين .. على مر العصور. 

ومن معاني التجديد أن يُزيل عن هذا الدين ما علق به من بدع وأوهام وأخطاء .. وتصورات باطلة لا تليق بعظمة هذا الدين .. ليبقى محفوظاً مصاناً ـ من أدنى معاني التحريف ـ كما أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .

وهذا أمر يبعث ـ كذلك ـ المرء على الانطلاق من أسر العزلـة والانطوائية على الذات والنفس ليبحث عن إخوان له ـ هم لا شك موجودون ـ وعد الله تعالى بنصرهم وظهورهم على من ناوأهم ولو كره المشركون فيكثر سوادهم بالقول والعمل ليكون واحداً منهم .. يجاهد معهم .

 ثانيا  استمرارية الجهاد فى كل زمان

الجهاد ماضٍ ـ مع كل بر و فاجر ـ ومستمر في كل زمان إلى أن تقوم الساعة لا يوقفه جور جائر ولا تخذيل مخذل خائر سواء كان للمسلمين إمام عادل يُقاتل من ورائه أو لم يكن لهم إمام ـ خليفة ـ كما هو الحال في زماننا رضي من رضي وأبى من أبى ..!

والذي يدل على ذلك أمران ـ ليس الهوى ومحض الرأي ـ هما: منطوق النصوص الشرعية ومفهومها .

أما منطوق النصوص الشرعية: فقد دلت النصوص الشرعية دلالة صريحة ـ لا تحتمل صرفاً ولا تأويلاً ـ على أن الجهاد ماضٍ ـ في كل زمان ولو بشخصٍ واحد ـ إلى قيام الساعة وأن بابه مفتوح لمن تتوفر لديه الاستطاعة على القيام بهذه الفريضة .

قال تعالى: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً النساء:84   

 فهذا نص يُفيد أن الجهاد ماضٍ ولو بشخصٍ واحد ..!

قال القرطبي في التفسير 5/293: قال الزجاج: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده لأنه قد ضمن له النصرة. قال ابن عطية: هذا ظاهر اللفظ إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة مدة ما فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ وهو مثال ما يُقال لكل واحدٍ في خاصة نفسه أي أنت يا محمد وكل واحدٍ من أمتك القول له فقاتل في سبيل الله لا تُكلف إلا نفسك ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يُجاهد ولو وحده ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:( والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي ). وقول أبي بكر وقت الردة: ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي ا- هـ .

وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة:111.

وهذا بيع وشراء قد تمَّ يشمل جميع المساحة الزمنية التي يعيشها الإنسان المؤمن .. لا يجوز تعطيله أو توقيفه في زمنٍ دون زمن .

فمن يشترط وجود الخليفة العام لإحياء فريضة الجهاد يلزمه أن يُبطل هذا العقد من البيع والشراء الذي تم بين الله تعالى وعباده .. طيلة فترة غياب الخليفة العام الذي قد يستغرق غيابه عشرات السنيين ويستهلك أجيالاً بكاملها كما هو الحال في زماننا ..!!

فبأي حق أو سلطان يُقال لهذه الأجيال أنتم مستثنون من هذا البيع والشراء طيلة فترة غياب الخليفة العام .. والذي قد يمتد إلى أكثر من مائة عام؟!

وفي الحديث الذي يرويه سلمة بن نفيل الكندي قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله أزال الناس الخيل ووضعوا السلاح وقالوا: لا جهاد قد وضعت الحرب أوزارها‍‍‍‍ !

فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال :( كذبوا! الآن .. الآن جاء القتال ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة وحتى يأتي وعد الله والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ) [ صحيح سنن النسائي: 3333، وقد تقدم ] .

وقال صلى الله عليه وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي يُقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة )  مسلم .

والطائفة تُطلق على الفرد فما فوق كما قال تعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ  التوبة:66.

قال القرطبي في التفسير: قيل كانوا ثلاثة نفر هزئ اثنان وضحك واحد فالمعفو عنه هو الذي ضحك ولم يتكلم ا- هـ.

فالطائفة المعفو عنها عددها واحد .. وشاهدنا من ذلك أن الجهاد يمضي بشخص واحد .. وهو بمفرده يُسمى طائفة .. وإذا كان الأمر كذلك فأين يكمن وجود الخليفة كشرط لمضي الجهاد ..؟!

وقال صلى الله عليه وسلم:( لن يبرح هذا الدين قائماً يُقاتل عليه عصابةٌ من المسلمين حتى تقوم الساعة )  مسلم .

والعصابة تُطلق على الثلاثة أنفار فما فوق .. وإذا كان القتال ذوداً عن الدين وحرماته يمضي بعصابة تعداد أفرادها ثلاثة أنفار .. فأين يكمن وجود الخليفة كشرط لمضي الجهاد .. وكيف يجوز اشتراط وجود الخليفة العام لمضي الجهاد . والجهاد يمضي بواحد . وثلاثة فما فوق .. كما أفادت بذلك الأحاديث ؟!

وقال صلى الله عليه وسلم:( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة )  مسلم .  وهذا الخير ماضٍ ومعقود في زمن وجود الخليفة وفي زمن غيابه .. لا يوقفه شيء من ذلك.

وقال صلى الله عليه وسلم:( إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد )[ رواه أحمد وغيره السلسلة الصحيحة: 1674. قلت: مفهوم الحديث يدل أنه إذا توقف الجهاد انقطعت الهجرة والسنة دلت أن الهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة فدل أن الجهاد لا ينقطع حتى تنقطع التوبة كذلك .. والتوبة معروضة ومستمرة إلى قيام الساعة]. وفي رواية:( لا تنقطع الهجرة ما جوهد العدو ) .

وفي المقابل فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) [ رواه أحمد وأبو داود، صحيح الجامع: 7469].

فإن ذلك يؤكد أن الجهاد لا ينقطع حتى تنقطع التوبة والتوبة لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها يوم ( لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل) الأنعام:158. لأن الهجرة باقية ما بقي الجهاد بدلالة النص وإذا افترض انقطاع الجهاد ـ فترة غياب الخليفة ـ فإنه يلزم انقطاع الهجرة وبالتالي انقطاع التوبة وهذا أمر لا يجوز القول به لمخالفته لصريح الأدلة وإجماع الأمة.

أما دلالة مفهوم النصوص: فإن السنة دلت على وجود المجاهدين ـ المتمثلين في الطائفة المنصورة ـ واستمرارية وجودهم إلى يوم القيامة واستمرارية وجود المجاهدين يستلزم استمرارية وجود الجهاد ـ صفتهم التي عرفوا بها ـ دون انقطاع وفي حال انقطاعه ـ ظاهراً ـ يكون لإعداد لوازمه وهو جزء من الجهاد وهو واجب وجوب الجهاد لأن الجهاد لا يتم إلا به وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

فالمسلم إما أنه يُجاهد في سبيل الله وإما أنه يعد للجهاد عدته عند سقوطه للعجز .. وليس له خيار ثالث .

وقد دلت السنة كذلك أن الإمام العام للمسلمين إذا طرأ عليه الكفر البواح تعين على الأمة الخروج عليه وعزله وتعيين خليفة آخر مكانه كما في حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال )إلا تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان ) متفق عليه. أي لا تنازعوا ولاة الأمور أمرهم إلا بعد أن تروا كفراً بواحاً لا يحتمل صرفاً ولا تأويلاً .

وفي رواية عند مسلم: قالوا: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم:( لا ما أقاموا فيكم الصلاة لا ما أقاموا فيكم الصلاة ). لأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال ـ ومهما تعاظمت التضحيات ـ الإقرار بشرعية ولاية الكافر على المسلمين وعلى الأمة الإسلامية كما قال تعالى:(ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) النساء:141.

قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو أطر عليه الكفر انعزل وقال وكذا لو ترك إقامة الصلاة والدعاء إليها [شرح صحيح مسلم للنووي: 12/ 229].

قلت إذا كان الجهاد ـ كما زعموا ـ مشروطاً بوجود الخليفة العام للمسلمين والخليفة هنا قد طرأ عليه الكفر البواح الذي لا يحتمل تأويلاً فكيف يتم جهاده وعزله ؟ ومن يقوم بجهاده وعزله ؟ الخليفة ـ والخليفة قد كفر ـ أم الأمة بمجموعها مع غياب الخليفة ؟ لا بد أن يكون الصواب هو الخيار الثاني ولا مناص من ذلك .

مما تقدم يعلم خطأ من يدعي إغلاق باب الجهاد طيلة فترة غياب الإمام العام للمسلمين ( الخليفة ) حتى لو استمر غيابه مئات السنين ومن يحاول من المسلمين خلال هذه الفترة أن يفتح بابه ـ في نظرهم ـ هو صاحب فتنة وهو آثم آبق في جهنم وبئس المصير..


[انظر مثلاً ماذا يقول محمد إبراهيم شقرة في كتابه الموسوم بـ " هي السلفية نسبةً وعقيدةً ومنهجاً ( الذي نال القبول عند الشيخ ناصر .. وعند كثير من السلفيين المعاصرين .. يقول: ونسأل لماذا لا تستطيع الأمة القيام بأعباء فريضة الجهاد ؟ ذلكم أن الجهاد ـ وهو فريضة فرضها الله سبحانه ـ لا يكون إلا بإمامٍ وبإذنٍ منه وهو في هذا مثل الحدود والعقوبات فهذه لا يوقعها ولا يقيمها إلا إمام العامة.والجهاد الذي جعله الله سبحانه من الأسباب التي تجري في فلك قانون المدافعة هو منه وبه وفيه وقانون المدافعة يقضي بأن الجهاد لا بدّ وأن يكون مأذوناً به من إمام عامةٍ فإن أذن على نحو ما بينا سابقاً وإلا فهو آبق إلى إثمٍ غادٍ إلى عذابٍ رائشٌ لنفسه سهماً من غضب الله يجأ به صدره !! وبعد فإن الجهاد لا يفتح بابه ولا يرفع رايته ولا يأذن به ويدعو إليه إلا إمام واحدٌ رضي من رضي وكره من كره صوناً للأمة وحفظاً لِقناتها "!! ا- هـ. ]!!

وهذا القول إلى جانب أنه مخالف للحق والصواب الذي دلت عليه النصوص الشرعية وما كان عليه السلف الصالح فإنه يترتب عليه مزالق عدة نجملها في النقاط التالية :

1 - هو قول من بنات عقولهم وأهوائهم وبالتالي فهو من هذا الوجه يعتبر إحداثاً في دين الله من غير بينة ولا دليل صحيح صريح ولا حتى ضعيف .. وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ..!

2 - وأقوى ما استدلوا به كحجة على مذهبهم الباطل هذا هو ما حصل ويحصل في بعض الأمصار التي أعلن فيها الجهاد من نتائج غير مرضية بسبب بعض الممارسات الخاطئة لبعض المجاهدين .. أو بسبب بعض الجراحات والآلام التي لا بد أنها تحصل جراء أي جهاد أو قتال يحصل بين المسلمين وأعدائهم!

فهم ما إن يسمعوا داعياً يدعو للجهاد في سبيل الله .. إلا وتراهم يصدون .. ويصدون عنه الناس .. ويقولون له على الفور: تريد أن يحصل كما حصل في بلد كذا .. وكذا .. ألا يكفي الدمار الذي سببتموه في تلك الديار .. ألا تعتبروا من النتائج التي حصلت هناك ..؟!!

وهذه حجة داحضة مرفوضة لا تقوم بها حجة ولا يجوز أن يبنى عليها حكم فهناك فرق بين خطأ المجاهدين وبين مبدأ الجهاد وشرعيته .. وبين الأخطاء التي تكون بسببٍ من أنفسنا وتقصيرنا وعدم أخذنا بالأسباب الشرعية .. وبين مبدأ الجهاد الذي شرعه الله تعالى لعباده ..!

وفي حال حصول بعض الممارسات الخاطئة من قبل المجاهدين ـ وبخاصة الأخطاء الناتجة عن اجتهاد ـ فهذا لا يستدعي إغلاق باب الجهاد واشتراط  له الشروط التي ما أنزل الله بها من سلطان .. وتجريم المجاهدين وتأثيمهم .. واعتبارهم آبقين إلى إثم وعذاب !

فقد صح أن خالد بن الوليد ( قد قتل الذين قالوا صبأنا ـ يريدون أن يقولوا أسلمنا لكن أخطأهم التعبير فلم يُحسنوا أن يأتوا بالتعبير الصريح الصحيح الذي يعصم دمهم .. فقالوا صبأنا ـ ظناً منه أن ذلك لا يعصم دمهم ولا يمنع من قتلهم .. وكان مخطئاً في ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من صنيعه لكنه لم يوقف الجهاد .. ولم يتبرأ من خالد .. ولا من جهاده بل سماه سيفاً من سيوف الله المسلولة على الباطل .. وأمّره على كثير من الغزوات ..!


فالذين يريدون أعمالاً من دون أخطاء ومجاهدين لا يخطئون .. وجهاداً من دون دماء وتضحيات .. فهم في الحقيقة لا يريدون أن يعملوا ولا أن يجاهدوا ولا أن تقوم للجهاد .. ولا للأمة قائمة لأن شرطهم هذا يستحيل تحقيقه في بني البشر المجبولين على الخطأ والتقصير ..!

وفي هذا يقول ابن تيميه رحمه الله: من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار أو مع معسكر كثير الفجور فإنه لا بد من أحد أمرين: إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضرراً في الدين والدنيا وإما الغزو مع الأمير الفاجر فيحصل بذلك دفع الأفجرين وإقامة أكثر شرائع الإسلام وإن لم يكن إقامة جميعها فهذا هو الواجب في هذه الصورة وكل ما أشبهها بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه [الفتاوى: 28م 506] .

3 - ومما يُرد به هذا القول أنه قول باطل لم يقل به سلف أو عالم معتبر .. وليس للقوم سلف سوى الكذاب ( أحمد غلام القادياني) الذي زعم لأتباعه في الهند أن الجهاد في الإسلام منسوخ لا يجوز العمل به .. خدمة للمستعمر الإنكليزي المحتل  يومئذٍ للبلاد!

وكذلك الشيعة الروافض الذين قالوا لا جهاد إلا مع إمام ولو طال غيابه آلاف السنين .. ولما كانت هذه العقيدة الباطلة مشكلة عليهم .. وعائقاً كبيراً أمام طموحاتهم .. اتفقوا مؤخراً على مبدأ سموه ( ولاية الفقيه ) الذي يقوم بدور وصلاحيات الإمام ..!

4 - المستفيد الأول والأخير من هذا القول  هم الطغاة المستبدون والكفار المستعمرون إذ من ثماره تكريس حكمهم وأمنهم والحفاظ على مصالحهم وعروشهم .. وتثبيط الأمة عن جهادهم والتحرر منهم ومن استبدادهم!

5 -  يتضمن هذا القول تأثيم كثير من الصحابة وغيرهم من السلف الصالح الذين جاهدوا من دون خليفة ومن دون إذن من إمام عام في وقت كان الخليفة العام للمسلمين موجوداً [ قلت: يكون الجهاد من دون إذن الخليفة في حال غيابه من باب أولى ] كجهاد أبي بصير ومن معه من الصحابة وقتالهم لكفار قريش واعتراضهم لقوافلهم .. من دون إذن من النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر منه لأن قريشاً كانت حينئذ في هدنة وصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم .. يمنع من قتالها طيلة عشر سنوات .. كما نصت على ذلك بنود صلح الحديبية.

وكذلك جهاد الحسين بن علي رضى الله عنهما وعبد الله بن الزبير رضى الله عنهما ومن كان معهما من الصحابة والتابعين .. ولم يكن أحد منهما يومئذٍ خليفة ولا إمام عام !

وكذلك الدولة الأموية .. والدولة العباسية .. والعثمانية .. قد مروا بمراحل قتال قبل أن يستتب لهم الأمر .. ويأخذوا وصف وحكم الإمامة العامة .. ومع ذلك لم يقل عالم معتبر بأن قتالهم غير مشروع لأنه بدأ من دون إمام عامة .. ولا إذنٍ منه !

وكذلك كان جهاد ابن تيميه ومن معه ضد التتار وغيرهم وكذلك جهاد محمد بن  عبد الوهاب أهل الشرك والبدع في زمانه .. فهؤلاء جميعهم ـ في نظر أصحاب هذا القول المحدث ـ آثمون آبقون في جهنم لأنهم شرعوا في الجهاد من دون إذن من الخليفة العام ..!!

6 -  هذا القول مفاده الطعن والتشكيك بشرعية الجهاد في كثير من الأقطار التي تعاني من وطأة الكافر المحتل كما في فلسطين وأفغانستان والشيشان .. وغيرها من الأمصار والبلدان .!وهذا فيه من الظلم والتجني والتألي .. ما فيه.

7 -  هذا القول مؤداه إلى ترك الجهاد في سبيل الله ـ إلى أن يجيء الخليفة فيأذن به!!ـ وحمل الأمة على الركون إلى الدنيا والوقوع في الوهن والذل .. حب الدنيا وكراهية الموت!  كما في الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إذا تبايعتم بالعينة [العينة: نوع من أنواع التعامل بالربا وصفته: أن يبيع المرء شيئاً من غيره بثمن مؤجل ثم يشتريه من المشتري قبل قبض الثمن بسعر أقل من ذلك القدر يدفعه نقداً فيكون بذلك قد تحققت الفائدة الربوبية بالفارق بين ثمن السلعة مؤجلاً وبين ثمنها نقداًَ] وأخذتم أذناب البقر [ أي: وتبعتم أذناب البقر كناية عن  الاشتغال بالرعي عن الجهاد في سبيل الله] ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)[ رواه أحمد، وأبو داود، والبيهقي وغيرهم، السلسلة الصحيحة:11] أي حتى ترجعوا إلى جهادكم .. فسمى الجهاد ديناً .

وقال تعالى:( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة:24.




ثالثا : صفة الإعداد

الإعداد والأخذ بأسباب القوة اللازمة لإرهاب العدو الكافر والذي يقرر هذه الصفة للطائفة المنصورة .. وملازمتهم لها في جميع مراحل نشاطهم وظروفهم .. هو كونهم يجاهدون في سبيل الله والجهاد بهم ماضٍ إلى قيام الساعة والجهاد من لوازمه الإعداد والأخذ بأسباب القوة كما قال تعالى :)  وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِين(  التوبة:46. 

 فبين أن الأخذ بالإعداد اللازم للجهاد هو القرينة الدالة على صدق الذين يريدون الجهاد والخروج في سبيل الله وأن عدمه يعتبر قرينة دالة على كذب القوم ولو ادعوا بلسانهم ألف مرة أنهم يريدون الجهاد والخروج فالإعداد أو عدمه هو القرينة الدالة على صدق الإدعاء أو كذبه .. وهي القرينة التي تميز الصادق من الكاذب فالأمة التي لا تواكب إعداد الأمم الأخرى وأخذهم بأسباب القوة والمنعة .. لا تستحق أن تعيش بكرامة بين الشعوب والأمم!

وقال تعالى:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الأنفال:60.

وفي الحديث عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول:( ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي[67من الرمي، الرمي على جميع أنواع الأسلحة الحديثة: من المسدس إلى الدبابة وحتى الصاروخ] ألا إن القوة الرمي)  مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم:( من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى) مسلم.

وكذلك مما يدل على اهتمام الطائفة المنصورة بالإعداد و الأخذ بأسباب القوة والظهور على أعدائهم وصفهم في الحديث بأنهم:( ظاهرين على من ناوأهم لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم ) وهذه صفة لا يمكن أن تجتمع أو تتحقق إلا في المؤمنين الأقوياء الذين يُحيون العمل بواجب إعداد القوة .. ومنافسة الآخرين في ذلك ما استطاعوا لذلك سبيل .

  رابعا: إخلاص الجهاد

فهم إذ يُجاهدون يُجاهدون في سبيل الله تعالى وحده لإعلاء كلمته في الأرض لا يشوب جهادهم مقصد آخر. يُجاهدون لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة وجنان الآخرة .

كما قال تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ( النساء:76.

والقتال في سبيل الله هو كل قتال تكون الغاية منه إعلاء كلمة الله في الأرض .. وما سوى ذلك فهو قتال في سبيل الطاغوت .. مهما اختلفت الرايات والمسميات .


كما في الحديث عن أبي موسى الأشعري قال: جاء إعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل ليُذكر ويقاتل ليغنم ويقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله؟ قال:( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل ) متفق عليه.

وعن أبي أمامة الباهلي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا شيء له ) فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا شيء له) ثم قال:( إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه ) [صحيح سنن النسائي: 2943].

وقال صلى الله عليه وسلم:( يجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: يا رب هذا قتلني فيقول الله له : لم قتلته؟ فيقول: قتلته  لتكون العزة لك. فيقول فإنها لي. ويجيء الرجل آخذاً بيد الرجل فيقول: إن هذا قتلني. فيقول الله له: لم قتلته؟ فيقول لتكون العزة لفلان فيقول: إنها ليست لفلان فيبوء بإثمه )[ صحيح سنن النسائي: 3732] .

والذي نريد أن نقرره هنا أن الذين يقاتلون تحت راية عمية جاهلية ـ وهي كل راية غير راية الإسلام ـ ولغاية عرقية أرضية كالذين يقاتلون في سبيل الإنسانية أو القومية أو العلمانية أو الوطن والوطنية وغيرها من الشعارات الوثنية المرفوعة في هذا الزمان التي تُعبد من دون الله .. والتي تُعبد العبيد للعبيد .. فهؤلاء ـ غير أنهم على ضلال مبين وخطر عظيم ـ لا يجوز اعتبارهم من الطائفة المنصورة أو أن قتلاهم شهداء .. وفي الجنة .. لمجرد أنهم يقاتلون .. لأنهم إذ يُقاتلون فهم يقاتلون لكي تكون العزة لفلان وليس لله عز وجل !

فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتلته جاهلية ) مسلم.

والطائفة المنصورة .. من أكثر الناس بعداً وبراءة من القتال تحت رايات جاهلية عمية .. وهكذا يجب أن يكونوا.

خامسا : القيام على أمر الله

وهم كذلك قائمون على أمر الله تعالى .. ساهرون على حدوده وأحكامه .. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يخافون في الله لومة لائم كما قال الله تعالى عنهم :( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( آل عمران:104.

والمراد بالأمة في  الآية هم العلماء العاملون المجاهدون صفوة الأمة علماً وعملاً وجهاداً وإذا لم يكن هؤلاء هم المعنيين من أحاديث الطائفة المنصورة فمن يكون غيرهم ؟!

 قال الضحاك: هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة يعني المجاهدين والعلماء [تفسير ابن كثير: 1/ 398].

وقال
تعالى:( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)  الحج:41.

وتظهر هذه الصفة فيهم ـ صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ بارزة في قوله صلى الله عليه وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ) ومن أمر الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي قوله:( لن يبرح هذا الدين قائماً ) بهم. والدين لا يقوم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً عنهم وعمن يخالفهم، فقال:( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء فمروا على من فوقهم فتأذوا بهم فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا فقالوا: لو أنا خرقنا من نصيبنا خرقاً فاستقينا منه ولم نؤذ من فوقنا فأخذ ـ أي أحدهم ـ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا : مالك ؟ قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ) [رواه البخاري وغيره، السلسلة الصحيحة:69].

 فمثلهم مثل الذين يأخذون على أيدي أهل المنكر زجراً وضرباً ونهياً .. حتى لا تهلك المجتمعات وتغرق ـ بأوحال الفساد والمرض ـ بساكنيها ..  وبذلك نالوا صفة القيام على حدود الله وأوامره .

وقال صلى الله عليه وسلم:( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) قيل: من هم يا رسول الله؟ قال:( الذين يصلحون إذا فسد الناس) [السلسلة الصحيحة: 1273].

وقد جاءت صفتهم  في رواية أخرى أنهم:( ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)[رواه ابن المبارك في الزهد، السلسلة الصحيحة: 1619]. لكن ذلك لا يثنيهم عن الجهر بالحق والصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو خالفوا بذلك تيار الباطل الجارف ..!

فهم يصلحون إذا فسد الناس مهما كانت تكاليف الإصلاح باهظة الثمن لا يلتفتون إلى كثرة الجماهير وصفيقهم . ولا يبالون لمن وافقهم أو خالفهم .

فهمّهم الأكبر هو الإصلاح .. هو أن تنجو السفينة من الغرق وتصل إلى بر الأمان بسلام ..! لا يبررون لأنفسهم ـ تحت ذرائع العجز والاستضعاف ـ مواكبة الباطل أو الركون إليه في مرحلة من مراحل المسير إلى الله .. طمعاً في كسبٍ دنيوي زهيد .. أو نظرة عطف وإحسان من طاغوت متجبر .. كما يفعل ذلك كثير ممن يسمون أنفسهم دعاة .. متسترين بمصلحة الدعوة ..  فاحيوا في الأمة فقه العجز والاستضعاف .. والركون إلى الظالمين .. وفقه أن الباطل واقع لا بد من الرضى به والتعايش معه .. ولا بد من مد جسور الحوار والتفاهم .. وما حملهم على ذلك إلا حظوظ النفس والهوى .. والطمع بما في أيدي الظالمين من فُتات .. والفرار من تكاليف الدعوة إلى الله! 


       شبهة ورد

من الشُبه التي تُثار حول الموضوع .. أن تغيير المنكر ينقسم إلى ثلاثة أقسام وهي :

1 -  تغيير للمنكر باليد وهو من صلاحيات السلطان ( الخليفة ) وخصوصياته

       وحده ..!

2 -  تغيير للمنكر باللسان وهو من صلاحيات العلماء وخصوصياتهم وحدهم ..

      لا ينبغي لغيرهم أن يقوم به أو يُشاركهم فيه!

3 -  إنكار المنكر فى القلب .. وهو من خصوصيات عامة المسلمين .. يستوى فى  

     ذلك القوى والضعيف .

والجواب على هذا التقسيم من أوجه، منها:

1 -  أن هذا التقسيم محدث ما أنزل الله به من سلطان .. لا يوجد عليه دليل صحيح من الكتاب والسنة ولا قول لسلف معتبر .. وعليه فهو تقسيم مردود لا قيمة له لقوله صلى الله عليه وسلم :(من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية:( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو مردود ) متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم:( إياكم والمحدثات فإن كل محدثة ضلالة) [رواه أبي عاصم في السنة وصححه الشيخ ناصر في التخريج]. وهذا التقسيم لا شك أنه من المحدثات التي لم يعرفها سلفنا الصالح من قبل.

2 -  أن نصوص الكتاب والسنة دلت على خلاف هذا التقسيم كما في قوله تعالى ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) التوبة: 71. فالنص عام وشامل لجميع المؤمنين والمؤمنات وهم جميعاً معنيون من هذا الخطاب حيث كل واحد منهم ينبغي أن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب قدرته واستطاعته وبحسب موقعه ومكانته بين أهله وقومه لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ التغابن: 16. ولأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.

قال ابن تيميه: وهذا ـ أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ واجب على كل مسلم قادر وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره فإن مناط الوجوب هو القدرة فيجب على كل إنسان بحسب قدرته  قال  تعالى:( فاتقوا الله ما استطعتم) [الفتاوى: 28/ 65]ا-هـ.

وفي قوله تعالى:) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر(. قال ابن كثير: المقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطيع فبلسانه فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)[التفسير: 1/ 398] .

فقيد تغيير المنكر بوجود الاستطاعة على تغييره لأن انتفاء القدرة يستلزم ارتفاع التكليف إلى حين تحقق القدرة ووجود الاستطاعة[ لتغيير المنكر ثلاثة شروط :

أولاً : أن يكون المرء عالماً بالمنكر الذي يريد أن يغيره لأن جاهل الشيء كفاقده لا يمكن أن يُعطيه وقولنا أن يكون عالماً بالمنكر: لا يعني ولا يستلزم أن يكون عالماً بمجموع مسائل الدين .

ثانياً : أن يكون قادراً على تغييره لأن العجز يرفع التكليف إلى حين تحقق القدرة .

ثالثاً : أن لا يؤدي تغيير المنكر إلى ما هو أنكر منه .. فالضرر يُزال ولا يُزال بضررٍ أكبر .. أو حتى مماثل لأن تغييره حينئذٍ يكون من العبث وتضييع للطاقات والأوقات من غير طائل .. والإسلام منزه عن ذلك!].

وكذلك فإن السنة قد دلت على أن من المنكر ما يغير باليد من دون أن يُحال إلى السلطان كقوله صلى الله عليه وسلم:( من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد) [صحيح سنن الترمذي: 1148].

وقال:( من أريد ماله بغير حق، فقاتل فهو شهيد) [صحيح سنن الترمذي: 1147]. وفي رواية:( من قتل دون مظلمته فهو شهيد) [صحيح سنن النسائي: 3818].

وعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال:( فلا تعطه مالك ) قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال:( قاتله ).قال: أرأيت إن قتلني قال:( فأنت شهيد ) قال: أرأيت إن قتلته؟ قال:( هو في النار )  مسلم .

قال الترمذي: قد رخص بعض أهل العلم للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله.

وقال ابن المبارك: يقاتل عن ماله ولو درهمين[صحيح سنن الترمذي: 2/ 62].

قلت : يلتجئ للقتال بعد أن تعدم جميع الوسائل الأخرى الممكنة التي يستطيع من خلالها أن يسترد حقه وينتصف لنفسه.. أما إذا وجد سبيلاً ـ غير القتال ـ يستطيع من خلاله  أن يحصل على حقه ويرد ظلم الظالم المعتدي عنه، فإنه حينئذ يتعين عليه الإمساك عن القتال لانعدام مبرراته ولما يترتب على القتال من مفاسد لا تحمد عقباها.. كما في الحديث عن مخارق قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يأتيني فيريد مالي؟ قال:( ذكره بالله ). قال: فإن لم يذكر؟ قال:( فاستعن عليه من حولك من المسلمين ). قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال:( فاستعن عليه بالسلطان ). قال: فإن نأى السلطان عني؟ قال:( قاتل دون مالك حتى تكون من شهداء الآخرة أو تمنع مالك ) [صحيح سنن النسائي: 3803].

دل الحديث على أن السلطان خيار من الخيارات .. وأنه إن نأى عن نصرة المظلوم وكان ذلك متعذراً .. وكان المظلوم قادراً على أن يحصل على حقه بيده ونفسه فإنه يشرع له حينئذٍ أن يقاتل دون ماله ومظلمته حتى يحصل على حقه ويستنقذ ماله من غاصبه.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:( من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد حل لهم أن يفقئوا عينه ) مسلم. وهذا منكر يغير باليد من دون أن يُرد إلى السلطان.

وكذلك فإن السنة دلت على وجوب ضرب الآباء لأبنائهم على الصلاة وهم أبناء عشر .. وهذا تغيير للمنكر باليد لا علاقة للسلطان به.

وكذلك ضرب الزوج لزوجته ـ ضرباً غير مبرح ـ في حال نشوزها وعصيانها كما قال تعالى:(  وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً( النساء: 34 .  وهذا أيضاً منكر يغير ـ عند الحاجة ـ باليد، لا دخل للسلطان به.

وغيرها كثير من الأدلة التي تدل على خلاف ذلك التقسيم .. والتي تدل على أن كل ابن آدم راعٍ وهو مسئول عن رعيته كما في الحديث:( كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته .. ) متفق عليه. ومن لوازم الرعاية والمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3 -  القول بموجب هذا التقسيم مؤداه إلى إهمال القوة وإلغاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد في زمن غياب السلطان (الخليفة)، وهذا أمر معارض لأبرز صفة من صفات الطائفة المنصورة ـ التي لا يرتبط وجودها بوجود الخليفة ـ  وهي القتال في سبيل الله، وحراسة الدين والفضيلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 سادسا : الظهور على من ناوأهم

ومن الصفات المتفرعة عن صفة الجهاد في سبيل الله عز وجل صفة الظهور على من ناوأهم وعاداهم والذي يقرر ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:( لا يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس ) وقوله صلى الله عليه وسلم:( ظاهرين على من ناوأهم ) وقوله صلى الله عليه وسلم:( منصورين ) .

فالأحاديث هنا على ظاهرها فهم ظاهرون بكل ما تعني كلمة الظهور من معنى فهم ظاهرون بذواتهم على كل من يعاديهم أو يقاتلهم ظاهرون بدعوتهم وكلمتهم على جميع الدعوات المزيفة الباطلة وهم كذلك ظاهرون بمعنوياتهم وإيمانهم لا يخافون في الله لومة لائم ..!

ترى أحدهم معتقلاً في سجون الطغاة يواجه أعتى أنواع التنكيل والتعذيب والإرهاب .. وهو مع ذلك ظاهر بدعوته صدَّاعاَ بالحق في وجوه الطغاة الآثمين .. بل هم حتى لو حكموا عليه بالإعدام تراهم يغتاظون منه لما يسمعونه من عبارات الرضى والتكبير والتهليل التي تنم عن رضاه بالفوز بنصر الشهادة  التي طالما كان يبحث عنها [من ذلك ما نسمعه عن كثير من الطواغيت الظالمين، حيث تراهم يمتنعون عن قتل الأخ وهو في سجونهم .. حتى لا يفوز بنصر الشهادة .. وحتى لا يُقال عنه شهيد .. ولما يعلمون ماذا تعني له الشهادة في سبيل الله ..!] ..!

ولربما كانت الكلمات التي كان ينطق بها بلال وهو تحت سياط الجلادين: أحدٌ .. أحد .. ولا يزيد .. هي أشد وطأة وقوة من السياط على رؤوس الطواغيت الجلادين!

شبهة ورد

لعل قائلاً يقول: كيف نوفق بين كونهم ظاهرين منصورين .. ثم بالمقابل لا نجد لظهورهم أثراً في الواقع ؟

والجواب على ذلك من أوجه منها:

1 -  نقول للسائل: لو أمعنت النظر ودققت الفهم .. وتحريت ببصيرة العالم ما يجري على الساحة .. لأدركت أن للطائفة المنصورة ظهوراً وحضوراً لا يمكن نكرانه أو تجاهله .. وإلى أن تقوم الساعة.

ونقول لك مصارحين معتذرين: قد كذبك فهمك وبصرك .. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عنهم من أنهم ظاهرون منصورون .. وعلى مر العصور إلى أن تقوم الساعة .

2 -  أن ظهورهم على الناس لا يُعدم ولكن الذي يمكن أن يحصل أن ظهورهم قد تتضاءل ساحته واتساعه .. في مرحلة من المراحل ـ بحكم الغربة التي يعانون منها ـ حتى يظن البعض أنهم غير موجودين مطلقاً والحقيقة تكون خلاف ذلك.

3 -  القول بأنهم ظاهرون  لا يستلزم أنهم لا يصابون ـ في مرحلة من المراحل ـ بخسائر ويمنون بهزائم .. بما كسبت أيدي بعضهم .. أو لابتلاء يريده الله .. يُمحص به النفوس والصفوف .. فهذا وارد حتى للطائفة المنصورة الأولى .. الذين نزل فيهم قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ  آل عمران:172.

وقوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ آل عمران:16. فسنة الله قضت أن يكون القتال سجال مرة لك ومرة عليك .. والعاقبة للمتقين .

4 -  ضمور الظهور ـ وليس انعدامه ـ في مرحلة من المراحل .. يعتبر بالنسبة لتاريخ الطائفة المنصورة المديد ومضة سريعة سرعان ما تنكشف وتنجلي وأمراً شاذاً وطارئاً وليس أصلاً ..!

سابعا : تعمل بصورة جماعية

ومن صفاتها أن الطائفة المنصورة تعمل بصورة جماعية منظمة عليها أمير مطاع والذي يقرر ذلك أمور نجمل ذكرها في النقاط التالية:

1 -  إن المهام التي تقوم بها الطائفة المنصورة والتي منها القتال في سبيل الله يستحيل القيام بها إلا من خلال عمل جماعي منظم .. أخذ بجميع أسباب القوة والظهور كما قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) الصف:4  .

والقاعدة الفقيهة تقول: مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب

والقول بخلاف ذلك: يعني ضياع كثير من الواجبات الشرعية التي منها الجهاد في سبيل الله ويعني كذلك الفردية والتشرذم والفرقة والاختلاف وهذا بخلاف ما أمر الله به ورسوله كما قال تعالى:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) آل عمران:103.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إن الله يرضى لكم أن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) مسلم .

وقال صلى الله عليه وسلم:( عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) [صحيح سنن الترمذي:1758].

وقال :( يد الله مع الجماعة) [صحيح سنن الترمذي:1760]. وقال صلى الله عليه وسلم:( الجماعة رحمة والفرقة عذاب )[رواه ابن أبي عاصم في السنة وصححه الألباني في التخريج].

وغيرها كثير من الأدلة التي تأمر بالجماعة والاعتصام بحبل الله، وتنهى عن الفرقة والاختلاف .

والغريب في الأمر: أن الذين يستهوون الفردية .. والعمل الفردي بعيداً عن الجماعة .. الذين تقشعر جلودهم من كل عمل منظم ـ يهدف إلى التعاون على الخير ـ ينتصرون بهذه النصوص على صواب ما هم عليه من فردية وتشرذم وتفرق قاتل ويستشهدون بها على خطأ كل من يدعو الأمة إلى أن تنتظم في جماعة واحدة على قلب رجل واحد وعلى منهاج واحد .. منهاج النبوة !!

فحملوا النصوص الشرعية من المعاني مالا تحتمل ووضعوها في غير موضعها ومنزلها الذي أراده الشارع !!

2 -  الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال: فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم تعال صلِّ لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة ) .

فالحديث فيه فوائد عدة منها:( صحة وشرعية الإمارة على هذه الطائفة على لسان نبينا ) حيث قال:( فيقول أميرهم ) وعلى لسان عيسى عليه السلام( إن بعضكم على بعض أمراء ) ولا ينبغي أن يحمل هذا ـ أي صحة الإمارة ـ على آخر الطائفة وقت نزول عيسى عليه السلام دون ما قبله من الأزمنة فإن إضافة الأمير إلى الطائفة( أميرهم ) مع بيان أن صفة هذه الطائفة هي الاستمرارية ( لا تزال ) يبين استمرارية هذه الإمارة وصحتها وإن الإمارة صفة لازمة لهذه الطائفة في كل زمان ( لا تزال .. أميرهم ) فإذا ثبت أنه تأتي على المسلمين أزمنة يفتقدون فيها الإمامة الكبرى( الخلافة ) وثبت صحة واستمرارية الإمارة على الطائفة المنصورة فتكون الإمارة على هذه الطائفة في حالة انعدام الإمارة صحيحة إن شاء الله تعالى [عن كتاب" العمدة في إعداد العدة " للأخ الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز ص 68. وهو كتاب مفيد ننصح بقراءته].

3 -  قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ) [رواه أبو داود، صحيح الجامع:500].

وفي رواية عند أحمد:( لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم ) .

فإذا كان ثلاثة في سفر تتعين عليهم الإمارة درءاً لحصول الفرقة والاختلاف فيكون من باب أولى أن تتعين الإمارة على ما هو أعظم من السفر كالجهاد في سبيل الله من أجل استئناف حياة إسلامية على منهاج النبوة.

قال ابن تيميه رحمه الله: يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ) وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم )  فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتماع ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ما أوجب من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله فإن التقرب إليه بطاعتـه وطاعة رسوله من أفضل القربات [الفتاوى: 28/ 390، 391]ا- هـ.

وقال الشوكاني بعد أن ذكر أحاديث الإمارة في السفر: فيها دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعداً أن يؤمروا عليهم لأن في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى الإتلاف فمع عدم التأمير يستبد كل واحد برأيه ويفعل ما يُطابق هواه فيهلكون ومع التأمير يقل الاختلاف وتجتمع الكلمة وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ويحتاجون لدفع التظالم وفصل التخاصم أولى وأحرى [نيل الأوطار: 8/ 256] ا- هـ.

وقال إمام الحرمين الجويني: فإذا خلا الزمان عن السلطان وجب البدار على حسب الإمكان إلى درء البوائق عن أهل الإيمان إلى أن قال: وإذا لم يصادف الناس قوَّاماً بأمورهم يلوذون به فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عم الفساد البلاد والعباد .

وقد قال بعض العلماء: لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحِجا من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره وينتهون عن مناهيه ومزاجره فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ترددوا عند إلمام المهمات وتبلدوا عند إظلام الواقعات.

ولو انتُدِب جماعة في قيام الإمام لغزوات وأوغلوا في مواطن المخافات تعين عليهم أن ينصبوا من يرجعون إليه إذ لو لم يفعلوا ذلك لهووا في ورطات المخافات ولم يستمروا في شيء من الحالات[غياث الأمم في التياث الظلم، ص 387- 388] ا- هـ.

4 -  وكذلك مما يستدل به على تجويز الإمارة وشرعيتها لغير الخليفة في حال غيابه ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم يوم ( مؤتة ) عندما قُتل أمراؤهم الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم .. فاجتمعوا على تأمير خالد بن الوليد من دون تأمير ولا إذنٍ من النبي صلى الله عليه وسلم وعندما بلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم استحسن صنيعهم وسمى خالداً يومئذ سيف الله.

قال ابن حجر في الفتح: فيه جواز التأمر في الحرب بغير تأمير قال الطحاوي: هذا أصل يؤخذ منه أن على المسلمين أن يقدموا رجلاً إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر[فتح الباري:7/ 586] ا- هـ.

وقال ابن قدامة في (المغني ): فإن عُدم الإمام لم يؤخر الجهاد لأن مصلحته تفوت بتأخيره قال القاضي: فإن بعث الإمام جيشاً وأمر عليهم أميراً فقتل أو مات فللجيش أن يؤمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في جيش مؤتة لما قتل أمراؤهم الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أمروا عليهم خالد بن الوليد فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فرضي أمرهم وصوب رأيهم وسمى خالداً يومئذ سيف الله[المغني:7/ 167] ا- هـ.

5 -  كذلك فإن السنة دلت على أن الأمير المعين من قبل الخليفة في حال عصيانه للأوامر يُعزل ويستبدل بأمير آخر من دون علم الخليفة العام إن تعذر إعلامه.

كما في الحديث الذي يرويه أبو داود في سننه عن بشر بن عاصم عن عقبة بن مالك  ـ من رهطه ـ قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فَسَلَحَت رجلاً منهم سيفاً فلما رجع قال: لو رأيت ما لامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( أعجزتم إذ بعثت رجلاً منكم فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري؟!) [ صحيح سنن أبي داود:2387].

قال أبو الطيب شمس الحق آبادي:( فلم يمض لأمري ) قال في المجمع في مادته مضى: وفيه إذا بعثت رجلاً فلم يمض أمري أي إذا أمرت أحداً أن يذهب إلى أمر أو بعثته لأمر ولم يمض وعصاني فاعزلوه. ( أن تجعلوا ) أي أعجزتم من أن تجعلوا .. [عون المعبود شرح سنن أبي داود: 7/209] ا- هـ.

وهذا لوم من النبي صلى الله عليه وسلم لهم على تقصيرهم في عزله وعدم تأمير من ينوب عنه في تنفيذ المهام الموكلة إليه على وجه أفضل .

والأدلة كثيرة التي تدل على شرعية انعقاد الإمارة لغير الخليفة في حال غيابه ـ سواء كان غيابه غيابَ حضور أم غياب انعدام كما هو الحال في زماننا ـ وفيما ذكرناه من الأدلة القدر الكافي لمن يسأل عن الحجة في المسألة ويبتغي الحق متجرداً عن هواه.

وقد وهم علي بن حسن الحلبي في كتابه ( البيعة بين السنة والبدعة ) [طبع المكتبة الإسلامية] الذي أراد فيه أن يبطل شريعة البيعة والإمارة لغير الخليفة حيث قوّل ابن تيمية ما لم يقل ونسب إليه مالا يصح عنه .. فنقل عنه قوله في( مجموع الفتاوى 28/ 18): (من أنه إذا كان مقصودهم بهذا الاتفاق والانتماء والبيعة التعاون على البر والتقوى فهذا قد أمر الله به ورسوله له ولغيره دون ذلك الاتفاق وإن كان المقصود به التعاون على الإثم والعدوان فهذا قد حرمه الله ورسوله فما قصد بهذا من خير ففي أمر الله ورسوله بكل معروف استغناء عن ذلك الاتفاق وما قصد بهذا من شر فقد حرمه الله ورسوله) .

قلت : وهذا ليس هو نص ابن تيميه كما هو في( مجموع الفتاوى) (28/18) وكان رحمه الله يجيب عن علاقة التلميذ بمعلمه وعن شرعية شد وسط التلميذ لمعلمه ولم يشر قط إلى البيعة والاتفاق وإليك قوله[نقلت بضعة أسطر قبل النص المختلف عليه ليدرك القارئ المراد من كلام ابن تيميه]: (ولا يشد وسطه لا معلمه ولا لغير معلمه فإن شد الوسط لشخص معين وانتسابه إليه ـ كما ذكر في السؤال ـ من بدع الجاهلية ومن جنس التحالف الذي كان المشركون يفعلونه،ومن جنس تفرق قيس ويمن(فإن كان المقصود بهذا الشد والانتماء التعاون على البر والتقوى فهذا قد أمر الله به ورسوله له ولغيره بدون هذا الشد وإن كان المقصود به التعاون على الإثم والعدوان فهذا قد حرمه الله ورسوله فما قصد بهذا من خير ففي أمر الله ورسوله بكل معروف استغناء عن أمر المعلمين وما قُصد بهذا من شر فقد حرمه الله ورسوله ). فليس لمعلم أن يحالف تلاميذه على هذا ) [مجموع الفتاوى:28/ 17- 18] ا- هـ.

فتأمل الفارق بين نقل مؤلف( البيعة ) وبين حقيقة قول ابن تيميه .. وكيف أنه حرف كلامه عن الشد والانتماء .. إلى الاتفاق والانتماء والبيعة .. فلم يأت على ذكر كلمة الشد .. وأضاف من عنده كلمة البيعة .. انتصاراً لمذهبه الخاطئ في المسألة ؟!!

وقد أخطأ ثانية .. وقال على السلف الصالح مالا ينبغي .. وبغير علم .. عندما قال في كتابه المذكور:( أين كان سلف هذه الأمة عن مثل هذه البيعات الاستثنائية؟ وهل نستطيع أن نصل بعقولنا وأهوائنا إلى خير نظنه فات صالحي هذه البيعات الاستثنائية التي لم ترد في نص قرآني أو حديث نبوي أو فعل أحد من السلف الصالح تعد بدعة ومحدثة !!) [صفحة 33، وانظر صفحة 32 و 37 و 39] ا- هـ.

قلت: وهذا وهم خطأ ظاهر .. وهو مردود بالكتاب والسنة وعمل السلف الصالح وإليك بيان ذلك:

ـ معنى البيعة: قبل أن نثبت شرعية البيعة لغير الخليفة .. ونأتي على ذكر النصوص  الواردة في الكتاب والسنة والآثار الثابتة عن السلف الصالح .. لا بد من أن نقف أولاً على معنى البيعة ليدرك القارئ مدى احتمال الأدلة ـ التي سنأتي على ذكرها ـ لمعنى البيعة .. والبيعة المختلف عليها.

البيعة :  هي عهد وميثاق وعقد يربط بين طرفين على أمر يتم التعاقد والتواثق
             عليه .

قال ابن الأثير في(النهاية) 1/174: في الحديث( أنه قال: ألا تبايعوني على الإسلام ) هو عبارة عن المعاقدة عليه والمعاهدة ا- هـ.

وقال ابن منظور في( لسان العرب) 8/26: وقد تبايعوا  على الأمر كقولك اصفقوا عليه وبايعه عليه مبايعة: عاهده ا- هـ. ثم نقل كلام ابن الأثير المتقدم .

وفي (المعجم الوسيط) 1/82: بايعه مبايعة وبياعاً : عقد معه البيع وفلاناً على كذا: عاهده وعاقده عليه ا- هـ.

والعهد: يكون بمعنى اليمين والأمان والذمة والحفاظ ورعاية الحرمة والوصية ولا تخرج الأحاديث الواردة فيه عن أحد هذه المعاني [النهاية: 3/ 325] .

والميثاق : العهد مفعال من الوثاق [النهاية: 5/ 151] .

وقال الراغب الأصفهاني: الميثاق عقد مؤكد بيمين وعهد[المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني] .

هذا معنى البيعة والعهد والميثاق .. فهل يجوز التعاقد والتعاهد على فعل الطاعات .. ومن ذلك ما يُسمونه بالبيعات الاستثنائية التي تُعطى لغير الخليفة أو الإمام العام ..؟!

هذا ما سنجيب عليه في التفصيل التالي:

أولاً : الدليل من القرآن الكريم على شرعية أخذ العهود والمواثيق على فعل الطاعات .. ومن أعظم الطاعات الجهاد في سبيل الله .. والعمل من أجل استئناف حياة إسلامية وقيام خلافة راشدة . قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) النحل:92.

قال ابن كثير: هذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكد.

وروى ابن جرير بسنده عن بريدة في قوله:( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام [تفسير ابن كثير:2/ 605]. فانظر كيف فسر العهد بالبيعة.

وقال ابن تيميه في التلميذ الذي يحالف أستاذه ثم ينتقل عنه إلى محالفة غيره: لا ريب أنهم إذا كانوا على عادتهم الجاهلية ـ أي من علمه استاذ كان محالفاً له ـ كان المنتقل عن الأول إلى الثاني ظالماً باغياً ناقضاً لعهده غير موثوق بعقده وهذا أيضاً حرام وإثم وهذا أعظم من إثم من لم يفعل مثل فعله بل  مثل هذا إذا انتقل إلى غير أستاذه وحالفه كان قد فعل حراماً فيكون مثل لحم الخنزير الميت ! فإنه لا بعهد الله ورسوله أوفى ولا بعهد الأول بل كان بمنزلة المتلاعب الذي لا عهد له ولا دين له ولا وفاء.

وقد كانوا في الجاهلية يحالف الرجل قبيلة فإذا وجد أقوى منها نقض عهد الأولى وحالف الثانية ـ وهو شبيه بحال هؤلاء ـ فأنزل الله تعالى:(وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ).

ومن حالف شخصاً على أن يوالي من والاه ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى ولا من جند المسلمين ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين بل هؤلاء من عسكر الشيطان ولكن يحسن أن يقول لتلميذه: عليك عهد الله وميثاقه أن توالي من والى الله ورسوله وتعادي من عادى الله ورسوله وتعاون على البر والتقوى ولا تعاون على الإثم والعدوان وإذا كان الحق معي نصرت الحق وإن كنت على الباطل لم تنصر الباطل.

فمن التزم هذا كان من المجاهدين في سبيل الله تعالى الذين يريدون أن يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا [الفتاوى: 28/ 19 ـ 21] .

فتأمل كيف أن شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ أقر شرعية العهود بين الأستاذ وتلميذه على فعل الطاعات وما أمر به أن يوصل واعتبر ذلك من الجهاد في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا أما الذي لا يجوز أن تنعقد عليه العهود والمواثيق هو كل أمر فيه معصية لله تعالى لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .. ولا نذر .. ولا وفاء في معصية.

فالعلة فيما يجوز من العهود وما لا يجوز هو ما يتم عليه التعاهد والتعاقد وليس ذات العهد أو العقد .. فإن كان المتعاقد عليه يتضمن معصية لله تعالى فهو باطل ولا يجوز إنفاذه ولا التعاقد عليه وإن كان حقاً وفيه طاعة لله ولرسوله فهو حق يجب إنفاذه والالتزام به وبخاصة إذا أخذت عليه العهود والمواثيق فإن أحقيته تصبح مضاعفة والوفاء به أوجب وأوكد من جهة أن الله تعالى قد أمر به ومن جهة أنه أعطى عهداً وميثاقاً على القيام به .. والوفاء بالعهد واجب يزيد الواجب وجوباً كما قال تعالى:( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) الإسراء:34  

وقال تعالى:( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) البقرة:177.

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .  المائدة:1

وجعل سبحانه وتعالى نقض العهد والميثاق من صفة المنافقين الفاسقين كما قال عنهم:( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)  البقرة:27.

وقال تعالى:( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) الرعد:25.

وكذلك مما يستدل به على شرعية العهود على الطاعات ما حصل بين يعقوب وأبنائه عندما أخذ منهم عهداً وموثقاً .. على أن يأتوا بأخيهم كما قال تعالى :(قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) يوسف:66.

قال صاحب(العمدة): فلما طلب يوسف عليه السلام من إخوته أن يأتوه بأخ لهم من أبيهم لم يأمنهم أبوهم عليه ورفض أن يرسله معهم حتى يؤتوه ميثاقاً وهذا الميثاق في معاملات الناس قد سماه الله تعالى:(  موثقاً من الله ) ولبيان غلظ هذه المواثيق قال كبيرهم ـ لما احتجز يوسف عليه السلام أخاه : ) قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(  يوسف:80.

وكذلك قول الله تعالى في الشرط الذي أخذه الخضر على موسى عليهما السلام  ليصحبه والشرط الذي اشترطه موسى على نفسه عليه السلام .

أما شرط الخضر ففي قوله تعالى:( قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) الكهف:70.

وأما ما اشترطه موسى على نفسه ففي قوله تعالى:( قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) الكهف:76.

وقد عقد البخاري رحمه الله لهذه المسألة باباً في كتاب الشروط من صحيحه وهو (باب الشروط مع الناس بالقول) وأورد فيه حديث ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام:( كانت الأولى نسياناً والوسطى شرطاً والثالثة عمداً ) حديث 2728.

قال ابن حجر: وأشار بالشرط إلى قوله:) إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي) والتزم موسى بذلك ولم يكتبا ذلك ولم يشهدا أحداً وفيه دلالة على العمل بمقتضى ما دل عليه الشرط فإن الخضر قال لموسى لما أخلف الشرط ( هذا فراق بيني وبينك)  ولم ينكر موسى عليه السلام ذلك [فتح الباري:5/326] .

فهذه الأدلة السابقة تبين جواز العهود والمواثيق والشروط بين الناس على فعل الطاعات ا- هـ.

ـ كلام لابن تيمية في أن الأيمان والعهود تزيد الطاعات توكيداً ووجوباً:

قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان وإن لم يعاهدهم عليه وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة كما يجب عليه الصلوات الخمس والزكاة والصيام وحج البيت وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة فإذا حلف على ذلك كان ذلك توكيداً وتثبيتاً لما أمر لا يحل له أن يفعل خلاف المحلوف عليه سواء حلف بالله أو غير ذلك من الأيمان التي يحلف بها المسلمون فإن ما أوجبه من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب وإن لم يحلف عليه .. فكيف إذا حلف عليه ؟!

وهذا كما أنه إذا حلف ليصلين الخمس وليصومن شهر رمضان، أو ليقضين الحق الذي عليه ويشهدن الحق فإن هذا واجب عليه وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه ؟!

 وما نهى الله عنه ورسوله من الشرك والخروج  عما أمر الله والكذب وشرب الخمر والظلم والفواحش وغش ولاة الأمور به من طاعتهم: هو محرم وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه ؟!

ولهذا من كان حالفاً على ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم أو الصلاة أو الزكاة أو صوم رمضان أو أداء الأمانة والعدل ونحو ذلك: لا يجوز لأحد أن يفتيه بمخالفة ما حلف عليه والحنث في يمينه ولا يجوز له أن يستفتي في ذلك. ومن أفتى مثل هؤلاء بمخالفة ما حلفوا عليه والحنث في أيمانهم فهو مفتر على الله الكذب مفت بغير دين الإسلام بل لو أفتى آحاد العامة بأن يفعل خلاف ما حلف عليه من الوفاء في عقد بيع أو نكاح أو إجارة أو غير ذلك مما يجب عليه الوفاء به من العقود التي يجب الوفاء بها وإن لم يحلف عليها فإذا حلف كان أوكد فمن أفتى مثل هذا بجواز نقض هذه العقود والحنث في يمينه كان مفترياً على الله الكذب مفتياً بغير دين الإسلام فكيف إذا كان ذلك في معاقدة ولاة الأمور التي هي أعظم العقود التي أمر بالوفاء بها ؟![ مجموع الفتاوى: 35/ 9-11].

ثانياً : الدليل من السُّنة وفعل السلف الصالح.             

جميع ما تقدم من أدلة تدل على شرعية الإمارة لغير الخليفة ـ في حال غيابه ـ تصلح أن تكون دليلاً على شرعية البيعة( الاستثنائية ) لغير الخليفة لأن من لوازم الإمارة .. واستتباب الأمن والنظام البيعة والطاعة .. وإضافة إلى ما تقدم نضيف هنا الأدلة التالية :

1 -  بيعة العقبة: الأولى والثانية حيث أعطيت للنبي صلى الله عليه وسلم ـ في مرحلة الاستضعاف والتخفي ـ قبل التمكين وقبل أن يكون رئيساً على دولة لها مقومات الخلاف العامة ـ التي تعتبر شرطاً عند المانعين لصحة البيعة ـ لهو دليل صريح وصحيح على جواز إعطاء البيعة لمن لم تكتمل فيه صفات الخليفة العام من حيث الظهور والتمكين .

والقول بأن هذه البيعة كانت من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره بحيث لا يجوز لأحد ـ غير الخليفة العام ـ أن يفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم أو أن يطلب البيعة والنصرة على الجهاد والعمل من أجل إعلاء كلمة الله .. قول يحتاج إلى دليل مخصص .. وأنّى !

ولما عُدم الدليل المخصص وكذلك قول واحد من السلف الصالح يفيد التخصيص علم أن القول بالتخصيص ـ في هذه المسألة ـ قول باطل مردود لا تقوم به حجة .. ولا يُلتفت إليه.

واعتبار مؤلف كتاب (البيعة) أن القول بعدم التخصيص لا يقدم عليه إلا من(كان في الضلالة عريقاً [هي عبارة المؤلف، انظر صفحة 34] ) هو اعتبار فيه غلو وشدة وغلظة .. لا يقدم عليه إلا جاهل بالنص والمأثور .. بل هو شتم صريح يطال سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم لأنه لم يثبت عن أحد منهم أنه قال بالتخصيص بل الثابت عنهم خلاف ذلك كما سيأتي بيانه في موضعه.

ثم أن المسألة ليست من الأصول .. ولا من الكليات العامة .. التي يترتب على المخالف فيها أن يكون عريقاً في الضلال ..!!

لذا كنا ـ ولا نزال ـ نرجو من صاحب كتاب البيعة أن يعتذر عن عبارته هذه ويتوب إلى الله منها .. ويمحها من كتابه إن ظهر له أنه لا يزال على الحق فيما ذهب إليه وأراد طباعة الكتاب ثانية.

2 -  قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق) متفق عليه.

فيه دليل على شرعية الاشتراط والعهود ما لم تكن مخالفة لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لأنه من أصول الشريعة أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا نذر في معصية .. ولا وفاء في معصية .. فإذا عُدمت المخالفة الشرعية تعين الوفاء بالشرط وبخاصة إن كان على أمر فيه طاعة لله ولرسوله  فإن الوفاء به حينئذٍ يكون أوجب وألزم كما في الحديث الصحيح:( المسلمون عند شروطهم ) أي وفاء والتزاماً بها.

ولشدة حرص الإسلام على الوفاء بالعهد قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان بأن يفي بعهده لقريش وأن لا يقاتل معه في بدر[لأن القتال يوم بدر لم يكن واجباً على جميع من يتعين عليه القتال عندما يتعين الجهاد بدليل أن  النبي صلى الله عليه وسلم لم  يستنفر معه للقتال إلا المهاجرين أما عندما يتعين جهاد الكفار على الجميع فشرط ترك مقاتلتهم شرط باطل وشرط الله أوثق وأحق بالوفاء .. والله تعالى أعلم] كما في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان ( قال: ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل ـ والده ـ قال: فأخذنا كفار قريش قالوا إنكم تريدون محمداً فقلنا: ما نريده ما نريد إلا المدينة فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لننصرف إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال:( انصرفا نفي لهم بعدهم ونستعين الله عليهم ) .

قلت: إذا كان على المسلم أن يفي بعهده الذي قطعه عليه الكفار وإن كان مؤداه إلى ترك مقاتلتهم مع أفضل خلق الله وفي أشرف وأقدس معركة وهي(بدر) أليس من باب أولى إن عاهد المسلم أخاه المسلم ـ عن رضى وطواعية ـ على الجهاد في سبيل الله وغيرها من الطاعات أن يفي بعهده وشرطه ؟!

فتأمل يا عبد الله واحذر أن يخونك فقهك وتعمى بصيرتك .!

وكذلك فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم نقض العهد من خصال النفاق والمنافقين كما في صحيح مسلم وغيره:( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر ) .

3 -  ومما يدل كذلك على شرعية أخذ العهود والمواثيق على الطاعة في الخير ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه فرآه علي فعرف أنه غريب فقال له: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقا لترشدنني فعلت ففعل فأخبره قال : فإنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحت فاتبعني ..[ انظر تمام قصة إسلام أبي ذر في الصحيح حديث:(3861) وفيها شرعية الاستعانة بالكتمان والسرية عند الضرورة عندما تكون الدعوة والدعاة هدفاً للطغاة الظالمين].

فهذا أبو ذر رضى الله عنه يأخذ من علي رضى الله عنه عهداً وميثاقاً ليطيعنه فيما يطلب منه من إرشاد لما يبحث عنه إن عرفه عن سبب قدومه .. وعلي يُعطيه عهداً على ذلك.

والقارئ يعلم أن أبا ذر لم يكن وقتها خليفة ولا أميراً ولا حتى مسلماً ومع ذلك فإن علي بن طالب رضى الله عنه يستجيب لمطلبه ويعطيه  العهد والميثاق على ذلك.

4 -  وكذلك ما رواه البخاري في قصة البيعة والاتفاق على عثمان رضى الله عنه وفيه أن عبد الرحمن بن عوف قال لعثمان وعلي: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه[أي يتنازل عن أن يكون خليفة وتوكل إليه مهمة تعيين الخليفة] والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه؟ فأُسكت الشيخان فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليّ والله علي أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قدم علمت فالله عليك لئن أمّرتك لتعدلن ولئن أمّرت عثمان لتسمعن ولتطيعن ثم خلا بالآخر فقال مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه فبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه .

وهذا أيضاً عبد الرحمن بن عوف لم يكن خليفة وقد أخذ على عثمان وعلي رضي الله عنهما موثقاً وعهداً ليطيعانه فيمن يختاره للخلافة .

5 -  وكذلك ما فعله عكرمة بن أبي جهل يوم اليرموك قال ابن كثير: قال سيف بن عمر عن أبي عثمان الغساني عن أبيه قال: قال عكرمة بن أبي جهل يوم اليرموك: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وأفر منكم اليوم؟ ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعاً جراحاً وقتل منهم خلق منهم ضرار بن الأزور رضي الله عنهم. وقد ذكر الواقدي وغيره أنهم لما صُرعوا من الجراح استسقوا ماءً فجيء إليهم بشربة ماء فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه فقال: ادفعها إليه فلما دفعت إليه نظر إليه آخر فقال: ادفعها إليه فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعاً ولم يشربها أحد منهم رضي الله عنهم أجمعين[البداية والنهاية:7/ 11].

فعل ذلك عكرمة ـ ولم يكن خليفة ولا أميراً ـ على ملأ من الصحابة من دون أن ينكر عليه أحد منهم .. وهذا إقرار وتصويب منهم لما قد فعله عكرمة رضى الله عنه .

 قال ابن كثير: قال سيف بن عمر إسناده إلى شيوخه: إنهم قالوا كان في ذلك الجمع ـ يوم اليرموك ـ ألف رجل من الصحابة منهم مائة من أهل بدر[البداية والنهاية: 7/ 9]. وهذا يعني أنه إجماع من الصحابة رضي الله عنهم على تصويب وشرعية ما فعله الصحابي رضى الله عنه .

6 -  ونحوه ما حصل في صفين عندما جعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه قيس بن سعيد بن عبادة رضي الله عنهما على مقدمة أهل العراق وكانوا أربعين ألفاً بايعوه على الموت[قال ابن حجر: أخرجه الطبري بسند صحيح، فتح الباري: 14/ 67] وقيس حينئذ لم يكن خليفة ولا أميراً عاماً  للجند .. ومع ذلك تمت له مثل هذه البيعة الاستثنائية.

7 -  كذلك مبايعة أهل الكوفة للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما للخروج على يزيد بن معاوية فبايعه منهم ثمانية عشر ألفاً [انظر البداية والنهاية:8/154]. والحسين لم يكن خليفة ولا أميراً عاماً ..!

8 -  وكذلك فإن السنة دلت أن المهدي الذي بشر النبي صلى الله عليه وسلم  بظهوره يُعطى البيعة من المسلمين وهو لها كاره قبل أن يكون خليفة أو يمكّن له في الأرض .. وهذا دليل قوي في المسألة.

9 -  وكذلك مبايعة الناس عبد الرحمن بن الأشعث للخروج على الحجاج وخليفة الوقت عبد الملك بن مروان ووافقه على خلعهما جميع من في البصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب وكان من جملة من بايع ابن الأشعث جبلة بن زحر وسعيد بن جبير والشعبي وغيرهم من العلماء ..!

وكذلك مبايعة أهل البصرة عبد الرحمن بن عياش بن ربيعه بن الحارث بن عبد المطلب على قتال الحجاج سنة اثنتين وثمانين[انظر البداية والنهاية:9/ 38 -42] .

10 -  كذلك مبايعة الناس لـ ( محمد النفس الزكية ) وقد بايعه أهل المدينة للخروج على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور سنة145.  وممن أفتى ببيعته الإمام مالك ..[ انظر البداية والنهاية:10/ 85 -86] .

11 -  كذلك بيعة أحمد بن نصر الخزاعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على الخليفة الواثق لفسقه وبدعته .

قال ابن كثير: ثم دخلت سنة 231، وفيها كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله وأكرم مثواه وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشطار[هم الماكرون المفسدون] والدعار في غيبة المأمون عن بغداد وكان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إلى أن قال: فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن ولما هو عليه وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها [البداية والنهاية:10/ 316- 317] .

والحوادث التي تثبت اشتغال سلفنا الصالح بمثل هذا النوع من البيعات والعهود هي أكثر من أن تحصى في هذا المبحث وهي من حيث الظهور والتواتر أجلى من أن يقول قائل:( أين كان سلف هذه الأمة مثل هذه البيعات الاستثنائية ؟)  كما ورد في كتاب البيعة .. لصاحبه المذكور!!

ـ تنبيه: قولنا بشرعية الجهاد في سبيل الله في حال غياب الخليفة العام للمسلمين لا يستلزم منه أن يقوم كل فرد من الأمة بواجب الجهاد بطريقته الفردية وبالأسلوب الذي يهواه .. ومن دون مراعاة للمصالح والمفاسد التي يمكن أن تترتب على تصرفاته .. فهذا تصرف لا يُسلم به وهو محظور من أوجه :

1 -  منها أنه يؤدي إلى الفرقة والتنازع والفشل والضعف والفوضى والله تعالى قد أمر بالجماعة والوحدة والتنظيم وبجميع أسباب القوة ونهى عن كل مظاهر التفرق والتنازع والضعف والضياع كما قال تعالى:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) آل عمران: 103. وقال تعالى:( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال:46. وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)  الصف:4.

وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ) .

وأكثر الأخطار تهديداً لأمن وسلامة الجماعات الجهادية .. والذي يُعيق من مسيرتها نحو أهدافها .. هو عدم وجود هذا التنسيق الكافي فيما بينها الذي يرقى إلى مستوى المعركة الضخمة التي تُحاك ضد الإسلام والمسلمين!

2 -  ومنها أنه قد يؤدي إلى فتنة أشد وأعظم من الفتنة أو المنكر المراد إزالته لأن التصرف الفردي ـ في الغالب ـ يتصف باللامسؤولية والضعف وعدم الدراية الكافية لما يصلح وما لا يصلح وما يجب القيام به وما يجب الإمساك عنه بخلاف الجماعة ـ التي تضم كثير الطاقات والإمكانيات الخيرة ـ القائم عملها على التنظيم والتخطيط والتعاون والتشاور والدراسة الدقيقة لما يجب القيام به .. وما يترتب عليه من نتائج .

3 -  ومنها أن من لوازم الجهاد وشروطه إعداد القوة اللازمة للقيام بواجب الجهاد وهذه مهمة جماعية ـ تتضافر على تحقيقها جميع الطاقات والإمكانيات الخيرة وكل بحسب طاقته ـ يصعب على فرد مستقلاً بنفسه أو مجموعة أفراد .. القيام بها من دون أن يصب جهدهم وإمكانياتهم مع جهد غيرهم من المجاهدين العاملين لذا جاء الأمر بالإعداد بصيغة الجمع من دون أن يستثني أحداً من أفراد الأمة كما قال تعالى:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة) الأنفال: 60. وقال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ) المائدة:2. وأفضل التقوى والبر الذي يُتعاون عليه هو التعاون على إعلاء كلمة الله في الأرض والجهاد في سبيل الله عز وجل .

والإعداد واجب على كل مسلم بحسب استطاعته وظروفه فأفضلهم الذي يعد للجهاد بنفسه وماله .. وأدناهم الذي يشارك بالنصيحة والدعاء للمجاهدين والذود عن أعراضهم وحرماتهم ـ وهو جهد مشكور عندما تتطاول ألسنة المثبطين المخذّلين على المجاهدين وحرماتهم ـ وليس وراء إخلاص الدعاء للمجاهدين إلا النفاق والعياذ بالله كما قال تعالى عن المنافقين:( وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) التوبة:46.


وقال تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  التوبة:91.

ليس على هؤلاء المعذورين من حرج بشرط أن يُخلصوا في النصح لله ورسوله والمؤمنين .. وتسلم سرائرهم من الضغينة أو الغش للمجاهدين!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

AddThis