الوسطية
والاعتدال
منقول عن الشيخ عبدالمنعم مصطفى حليمة
من أبرز ما يميز الطائفة الناجية المنصورة عن غيرهم من الطوائف والفرق (الوسطية والاعتدال) فهم وسط في جميع شؤون حياتهم الدينية والدنيوية حيث لا غلو ولا جفاء ولا إفراط ولا تفريط ولا إسراف ولا تقتير.كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا) البقرة:143.
وعندما نتكلم عن صفة (الوسيطة) للطائفة المنصورة نعني خصالاً دلت عليها الشريعة هي من أخص خصائص الوسيطة ولوازمها وهي :
1 - الخيرية والعدل: كما في الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير! فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً فذلك قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) البقرة:143. والوسط : العدل .
قال ابن كثير: والوسط هاهنا الخيار والأجود كما يقال قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي خيرها [تفسير ابن كثير: 1/ 196].
وقال ابن قتيبة: الوسط: العدل الخيار ومنه قوله تعالى: قَالَ أَوْسَطُهُمْ أي:أعدلهم وخيرهم .
ومما يؤكد على خيرية أمة الوسط قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ : آل عمران :110.
قال ابن كثير: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ : يعني خير الناس للناس والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس كما قال في الآية الأخرى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً : أي خياراً [ التفسير:1/399].
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :( أنتم تتمّون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى) [ رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن. قال الألباني وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وإسناده حسن. مشكاة المصابيح: 6285.]. وذلك لا لنسب أو عرق أو جنس .. وإنما لكونها الأمة الأكثر أمراً بالمعروف والأكثر نهياً عن المنكر.
وقال صلى الله عليه وسلم:(أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء) فقلنا يا رسول الله ما هو؟ قال:( نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهوراً وجعلت أمتي خير الأمم) [قال ابن كثير في التفسير 1/ 400 تفرد به أحمد من هذا الوجه، وإسناده حسن].
قلت: وأولى أمة محمد صلى الله عليه وسلم بصفة الخيرية والعدل هم الطائفة المنصورة الذين يقومون بمهام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذود عن الدين وحرماته كما سبق بيان ذلك .
ونحن عندما نقرر صفة العدل للطائفة المنصورة نريد أن نستلفت الانتباه إلى أن الطائفة المنصورة من خصالهم إنصاف الناس ـ ولو كانوا أعداء ـ وإنزالهم منازلهم التي يستحقونها من غير محاباة لأحد على حساب أحد فيشهدون على المحسن بأنه محسن وعلى المسيء بأنه مسيء أياً كان ومهما كان ومن غير غلو أو جفاء وتفريط .
فليس العظمة في أن تنصف الآخرين في حال الرضى والسلم .. وإنما العظمة أن تنصف الآخرين في حال السخط والحرب .. وتتعامل معهم بعدل من غير محاباة أو ميل لهوى أو نفس .. وهذا لا يتحقق إلا لأمة الإسلام كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ : المائدة:8.
[ تأمل مثلاً عشرات القوانين التي صدرت مؤخراً في بعض بلاد الغرب .. حامية حقوق الإنسان .. والتي مفادها الترخيص باعتقال من يشاءون من المسلمين . فقط من المسلمين . للفترة الزمنية التي يشاءون من غير محاكمة ولا قضاء عادل .. بل ومن دون ذنب ثابت .. بزعم ملاحقة الإرهاب .. مع التنبيه إلى أن هذه القوانين لا يجوز أن تشمل المواطنين المحليين من أبناء البلد .. مهما كانوا إرهابيين ؟!!].
2 - الاستقامة على منهاج النبوة صراط الله المستقيم: وهي من أبرز خصائص (الوسطية) التي تتصف بها الطائفة المنصورة كما قال تعالى: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً البقرة:143. فهم أمة وسط لالتزامهم صراط الله المستقيم .
وقال تعالى في سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ : الفاتحة:7 .
فهو صراط بين صراطين صراط المغضوب عليهم وهم اليهود الذين فرطوا بحق الله تعالى وحقوق الأنبياء عليهم وصراط الضالين وهم النصارى الذين غالوا بالترهب وفي قولهم في عيسى عليه السلام بغير حق .
قال الطبري في التفسير 2/6: إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلو بالترهيب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها ا- هـ.
وقال تعالى : فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا : هود:112.
وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ : فصلت:30 .
وقال تعالى: إنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ : فصلت:6.
وقال تعالى : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ : الأنعام:153.
وفي الحديث عن جابر بن عبد الله قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطاً هكذا أمامه فقال:(هذا سبيل الله عز وجل) وخط خطاً عن يمينه وخط خطاً عن شماله وقال:( هذه سبل الشيطان ) ثم وضع يده في الخط الأوسط ثم تلا هذه الآية: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ : الأنعام:153. [ رواه ابن عاصم في السنة، وصححه الألباني في التخريج: 16].
وفي معنى الاستقامة قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب.
وقال الحسن: استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته.
وقال ابن تيميه: استقاموا على محبته وعبوديته فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة .
قال ابن القيم: فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات. فالاستقامة فيها: وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله .
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميه يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة [مدارج السالكين:2/ 104-105].
وفي معنى (الصراط المستقيم) قال الطبري في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ : أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم: هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه [ التفسير:1/ 73 ].
وقال ابن كثير في التفسير1/29: اختلف عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو المتابعة لله وللرسول ا- هـ.
وقد تقدم أن الطائفة الناجية المنصورة هم أولى الناس استقامة واتباعاً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
3 - التيسير .. واجتناب الغلو والتشدد في الدين : فالتيسير في الدين .. واجتناب التشدد والغلو يُعد من أبرز خصـال ومدلولات الوسطية تنتفي الوسطية بانتفائها وتوجه بوجودها .
حيث أن النبي صلى الله عليه سلم قد نهى عن الغلو والتشدد في الدين وعد ذلك من خصال من لا خلاق لهم كالخوارج الغلاة وغيرهم فقال صلى الله عليه وسلم (إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) [ رواه النسائي، وابن ماجه، السلسلة الصحيحة: 1283]. والغلو هو كل ما زاد عن المشروع .
وقال صلى الله عليه وسلم :(رجلان ما تنالهم شفاعتي: إمام ظلوم غشوم وآخر غالٍ في الدين مارق منه) [ رواه أبي عاصم في السنة، وصححه الألباني في التخريج ].
وقال صلى الله عليه وسلم :( فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه) [رواه ابن أبي العاصم في السنة، وصححه الألباني ].
وقال صلى الله عليه وسلم :(عليكم هدياً قاصداً فإنه من يغالب هذا الدين يغلبه) [رواه ابن أبي العاصم، وصححه الألباني ]. والهدي القاصد هو الهدي الوسط حيث لا إفراط ولا تفريط .
وقال صلى الله عليه وسلم :(القصد القصد تبلغوا) البخاري . أي التزموا التوسط والاعتدال من غير جنوح إلى غلو أو جفاء .. تصلوا إلى النجاة وتفوزوا بالجنان والرضوان .
وقال صلى الله عليه وسلم :(هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً. مسلم.
قال النووي رحمه الله: أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم [شرح صحيح مسلم:16/220].
وقال صلى الله عليه وسلم في الرهط الذين تقالوا عبادته قياساً إلى عبادتهم:( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) متفق عليه. وهذا حديث تتجلى فيه جميع معاني ومدلولات الوسطية.
وقال صلى الله عليه وسلم في الخوارج الغلاة الذين يكفرون المسلمين بالذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر وبالشبهات والظن:(سيخرج من أمتي قوم يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلواتكم إلى صلواتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرأون القرآن يرون أنه لهم وهو عليهم لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية) مسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم:(يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) متفق عليه.
قلت: فهم يقتلون أهل الإسلام لما غالوا في تكفيرهم بغير حق الذي من لوازمه استباحة حرماتهم وقتلهم وفي الحديث:(تكفير المسلم كقتله) .
وقال صلى الله عليه وسلم فيهم أيضاً:(يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية) [رواه أحمد، وابن عاصم في السنة، وصححه الألباني في التخريج ].
وقال صلى الله عليه وسلم :(إن فيكم قوماً يتعبدون حتى يعجبوا الناس ويعجبهم أنفسهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) [ أخرجه أبو يعلى، السلسلة الصحيحة: 1895].
وعن مسلم بن أبي بكرة عن أبيه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مر برجل ساجد ـ وهو ينطلق إلى الصلاة ـ فقضى الصلاة ورجع إليه وهو ساجد!!، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(من يقتل هذا ؟) فقام رجل فحسر عن يديه فاخترط سيفه وهزه ثم قال: يا نبي الله! بأبي أنت كيف أقتل رجلاً ساجداً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله ؟! ثم قال:(من يقتل هذا ؟) فقام رجل فقال: أنا فحسر عن ذراعيه واخترط سيفه وهزه حتى أرعدت يده فقال: يا نبي الله! كيف أقتل رجلاً ساجداً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(والذي نفسي بيده لو قتلتموه لكان أول فتنة وآخرها) [أخرجه أحمد، السلسلة الصحيحة: 2495].
ونحو الحديث الذي يرويه أبو سعيد الخدري: أن أبا بكر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني مررت بوادي كذا وكذا فإذا رجل متخشع حسن الهيئة يصلي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اذهب إليه فاقتله (قال: فذهب إليه أبو بكر فلما رآه على تلك الحال كره أن يقتله فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:(اذهب فاقتله) فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر قال: فكره أن يقتله قال: فرجع فقال: يا رسول الله! إني رأيته يصلي متخشعاً فكرهت أن اقتله قال:( يا علي ! اذهب فاقتله) قال: فذهب علي فلم يره فرجع علي فقال: يا رسول الله! إنه لم يره فقال صلى الله عليه وسلم :( إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فوقه فاقتلوهم هم شر البرية) [ أخرجه أحمد، قال الألباني : إسناده حسن. السلسلة الصحيحة:5/659].
فتأمل كيف خسروا دنياهم وآخرتهم بسبب غلوهم وتشددهم في الدين.
ومن الأدلة على استحباب التيسير ـ بل على وجوبه ـ ورفع الحرج عن العباد في الدين، قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج الحج:78. وقوله تعالى: ُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ المائدة:6 . وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَج النور:61. وقوله تعالى: ِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْه البقرة:173. وقوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ الأنعام:119. وقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا البقرة:286 . وقوله تعالى: َ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ البقرة:185 وقوله تعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى الأعلى:8 . وقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً الشرح:6. وغيرها كثير من الآيات التي تحض على التيسير وتجنب التعسير والتشدد في الدين!
وفي السنة فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن الله تعالى رضي لهذه الأمة اليسر وكره لها العسر) [رواه الطبراني، صحيح الجامع: 1769].
وقال صلى الله عليه وسلم:(ادعوا الناس وبشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا) [رواه مسلم، صحيح الجامع:"246] .
وقال صلى الله عليه وسلم:(إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً ) مسلم .
وقال : (إن الدين يسر ولا يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا) البخاري .
وقال صلى الله عليه وسلم:(إن خير دينكم أيسره إن خير دينكم أيسره) [رواه أحمد وغيره] .
وقال صلى الله عليه وسلم:( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم:(إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فاتجوز كراهية أن أشق على أمه) البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم:(أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة) متفق عليه.
ومن الآثار قول ابن مسعود: إياكم والتنطع إياكم والتعمق وعليكم بالعتيق.
وكان عمر رضى الله عنه يقول: نهينا عن التكلف. وقد مر في طريق فسقط عليه شيء من ميزاب فقال رجل مع عمر: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبرنا ومضى .
وروي أن ابن عمر سئل عن الجبن الذي تصنعه المجوس؟ فقال: ما وجدته في سوق المسلمين اشتريته ولم أسأل عنه.
وقال الإمام الشعبي: إذا اختلف عليه أمران فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق لقوله تعالى : ُيرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .
وقال معمر وسفيان الثوري: إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد .
وقال إبراهيم النخعي: إذا تخالجك أمران فـظن أن أحبهـما إلى الله أيسرهما.
وروي عن مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز: أفضل الأمرين أيسرهما لقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [انظر تخريج الآثار المذكورة أعلاه، كتاب الوسطية في ضوء القرآن الكريم ، للشيخ ناصر العمر].
ولكن طلب الأيسر لا ينبغي أن يكون ذريعة ـ كما يفعل أصحاب النفوس المريضة ـ لتجاوز المشروع المسنون عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن من هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن مخالفاً لأمر الله تعالى .
كما أن الوقوف على المشروع المسنون من غير إفراط ولا تفريط لا يجوز أن يسمى غلواً .. أو مغايراً للتيسير .. كما يفعل من تسول لهم أنفسهم الرغبة في التفلت من قيود الشريعة بزعم التماس التيسير ..!!
فإن اتهام من يلتزمون السنة ولا يتجاوزونها إلى زيادة أو نقصان بأنهم من أهل الغلو أو التشدد .. هو ـ أي هذا الاتهام ـ من الغلو والتنطع .. وهو اتهام لشرع الله تعالى بالغلو .. وللنبي صلى الله عليه وسلم بالغلو والتشدد .. ومن يتهم شرع الله تعالى بالغلو أو يرمي نبي الله بالغلو .. كمن يتهمه بالنقص أو التفريط وهذا عين الكفر والمروق من الدين .
لذا ينبغي على الناس أن ينتبهوا لاطلاقاتهم وكلامهم عندما يصفون شيئاً بأنه من الغلو .. أو ليس من الغلو .. فرب كلمة يطلقها المرء لا يُلقي لها بالاً توبقه في جهنم سبعين خريفاً !!
4 - التوسيط بين خلقين كلاهما مذموم وسيء: ومن معاني الوسطية التوسط بين أمرين كلاهما باطل حيث أن الحق وسط بين باطـل وباطل من غير جنوح إلى زيادة أو نقصان .
قال الإمام الطحاوي في متن العقيدة الطحاوية: ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام وهو بين الغلو والتقصير وبين التشبيه والتعطيل وبين الجبر والقدر وبين الأمن والإياس ا ـ هـ .
وقال ابن القيم: قال بعض السلف: ما أمر الله إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة وهي الإفراط ولا يبالي بأيهما ظفر زيادة أو نقصان[مدارج السالكين:2/108] .
قال ابن تيميه: فإن الفرق الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم .
فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة. وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم. وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم. وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية. وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج[شرح العقيدة الواسطية، ص 124- 132] ا - هـ.
وقد تقدم قول الإمام الطبري في تفسيره 2/6 حيث قال: إنما وصفهم وسط لتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلو بالترهيب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها ا- هـ.
ـ تنبيه: من خلال ما تقدم يعلم بطلان وخطأ فهم الإنهزاميين المفرطين ـ أصحاب الحلول الوسط ـ للوسطية في الدين حيث اعتبروها وسطاً بين الحق والباطل وبين الممدوح شرعاً والمذموم شرعاً وبين الجيد والضعيف فوفقوا ـ بزعمهم وباسم الوسطية ـ بين الحق والباطل وقاربوا بين الكفر والإيمان بحلول وسط وهكذا كل أمر أرادوا تمييعه والتفلت منه ردوه إلى وسطيتهم وتحريفاتهم .. وإذا ماسئلوا عن ذلك قالوا: الإسلام قد أمرنا بالوسطية والاعتدال .. ونحن نلتزم الوسطية والتوسط !!
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً فهي كلمة حق أرادوا بها باطلاً وتسويقاً للباطل .
فوسطيتهم هذه في نظر وسطية الدين ما هي إلا تفريط وجفاء وتقصير .. وهي إثم أشد وأثقل من إثم من يقع في التقصير مع اعترافه بالذنب والتفريط ..!
ـ خلاصة القول: أن الوسطية في الإسلام هي من أبرز سمات وخصائص الطائفة الناجية المنصورة التي تميزها عن غيرها من الطوائف .. حيث لا يمكن أن نتصور وجود طائفة مرضية منصورة ـ يحقق الله على أيديهم النصر والتمكين لدينه ـ ثم هم في سلوكهم واعتقادهم وأخلاقهم وفهمهم لهذا الدين ينحرفون عن الوسطية والاعتدال إلى غلو أو جفاء .. لا يمكن أن تكون الطائفة المنصورة كذلك .. ولا يمكن أن يكونوا منصورين وهم كذلك .. نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يلتزمون الوسطية والاعتدال من غير إفراط ولا تفريط .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق