وتتعرى الليبرالية الفاشية المتصهينة



 ما يحدث فى مصر الآن مشهد مألوف ومتكرر .. فلا جديد تحت شمس منطقتنا العربية .. مشهد مألوف نحفظه عن ظهر قلب .. تكرر مرات على أعين العالم كله ..  تجري انتخابات في بلد عربي .  . يصعب التزوير أو يتعذر . . يفوز إسلاميون . . تثور قلاقل، تُفتعل أزمات. . ثم ... انقلاب
                                      


ثم يخرج علينا المبررون والشامتون .. جميعهم  يلعن الرئيس الذي «فشل» في مهمته، واحتكر «الدين»، وقسّم الناس إلى فسطاطين؛ الجميع يتغزل ويبارك الانقلاب الذي قطع الطريق على من يريدون إعادة المجتمع إلى ما قبل الحداثة؛ إلى «القرون الوسطى» والعصر الحجرى

لا جديد ! رأينا هذا السيناريو في الجزائر عند بداية التسعينيات، يومها قام العسكر أيضاً بالانقلاب على نتيجة انتخابات تشريعية شفافة تحت إشراف دولى فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بنسبة 82 %، وتم إلغاء نتيجتها بقرار، ثم انقضوا على قيادات الجبهة المنتصرة وقواعدها، فزج بهم بعشرات الآلاف في معتقلات جماعية في الصحراء سمّوها «محتشدات»

أما الغرب فقد بارك تلك الجريمة بل وحرض عليها تحريضاً ..  فقد نشرت صحيفة التايمز البريطانية على صفحتها الأولى صورة عدّاءة جزائرية طويلة القامة اسمها «حسيبة»، وعلقت قائلة: «لو تم الأمر للجبهة الإسلامية للإنقاذ، فلن نرى سيقان حسيبة بعد اليوم»

كما كتبت صحيفة لوموند الفرنسية قبل الانقلاب ببضعة أيام ما نصه : «أثبت الشعب الجزائري باختياره الجبهة الإسلامية للإنقاذ أنه فاقد الوجهة تماماً»
     
وزخرت الصحف البريطانية بأعمدة رأي تحذر من عواقب حكم الجبهة، وتبرر انقلاب الجيش عليه فيما لو حصل، وكنت أود أن أجمع كل ما جاء وقتها من تعليقات وآراء ولكن على سبيل المثال جاء في الصنداي تايمز قول أحد المعلقين: «سنستفيق على غياب الموسيقى الغربية والمشروبات الكحولية في الجزائر إذا وصلت الجبهة الإسلامية إلى السلطة»

وفي تكرار متطابق لنفس السيناريو وفى عام 2006 وفى الانتخابات التشريعية في الضفة الغربية وقطاع غزة فازت  حركة حماس بأغلبية أصوات الناخبين في اقتراع حر نزيه، لكن العالم كله، بشرقه وغربه ، رفض النتيجة، وانحاز إلى الصهيونية وأهوائها

حاول الرافضون ومن وراءهم الانقضاض على نتائج تلك التجربة الديمقراطية، فبادرت حماس إلى إجهاض المكيدة، فما كان من «المجتمع الدولي» إلا أن ضرب حصاراً خانقاً حول الضحايا عقاباً لهم على اختيارهم الديمقراطى

ما يحدث اليوم في مصر لا يختلف أبداً عن هذا النفاق ، فقد فاز رجل مصرى اسمه الدكتور محمد مرسي في انتخابات رئاسية حرة، قاتلت أثناءها وخلالها وبعدها كل القوى الغربية والإقليمية لمنع فوزه فيها بل تأجل إعلان النتيجة لأيام طويلة فى فضيحة غير مسبوقة لمحاولة تغيير النتيجة لصالح أحمد شفيق

صُمت آذاننا بعد ذلك بالأصوات المشككة في العملية الديمقراطية بحجة أبعد ما تكون عن الديمقراطية تتلخص فى أن الفوز كان بأغلبية غير كاسحة؛ 52 % وهذا الكلام فى الحقيقة من المضحكات المبكيات

وليت الأمر توقف عند ذلك فإن للمهزوم أحياناً أن يهذى تحت ضغط مرارة الهزيمة ، ولكن الأمر تعدى كل الحدود فقد  تعرض الرئيس الجديد لحملة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ البشرية ، حملة غير أخلاقية تختبئ خلف الاتهام بـ «أخونة الدولة»، وتستبطن العداء للإسلام

هذا ما جعل محمد البرادعي يصرح بعد الانقلاب لمجلة دير شبيغل الألمانية قائلاً: «من دون إقصاء مرسي كانت مصر ستسير نحو الدولة الفاشية، أو ستنزلق إلى حرب أهلية» (7 تموز/يوليو 2013)

وعلى الرغم من أن تهمة «الأخونة» متحاملة ومبالغ فيها، إلا أنها فى حقيقتها  ليست مثلبة في النظم الديمقراطية ، فمن حق الحزب الفائز أن يستعين بكفاءاته وكوادره لتجري إدارته في انسجام وتناغم

حاول مرسي خلال السنة اليتيمة المريرة من حكمه أن يقدم نموذجاً في احترام حرية التعبير يكرس قيم ثورة 25 يناير، لكن الاستئصاليين (يُسمون «معارضة» في خطاب الدعاية) استغلوا ذلك لشن أكبر حملة كراهية واحتقار وازدراء على مدار التاريخ قاموا فيها بإهانة الرئيس بأبشع الألفاظ، التى تحط من كرامته، وتلاحق حتى أفراد عائلته في دراستهم وأرزاقهم

صبر مرسي على ذلك طويلاً ، وحينما سألوه في مقابلة عن تلك الحملة عبر عن تفهمه لها بوصفها انفجاراً أتى بعد عقود من تكميم الأفواه

ظل المهرج التلفزيوني المُقزز باسم يوسف يسخر من الرئيس مرسي ومن الإخوان وحتى من الدين الإسلامي، ولم يحرك مرسي ساكناً .. ولما بلغ السيل الزبى، اكتفى الرئيس برفع دعوى قضائية ضده، لكنه خسرها فقضاؤنا الشامخ لم ير فى إهانة الرئيس إلا حرية رأى وتعبير وخاصة وأن باسم يوسف دمه خفيف

مرسى تم الحكم عليه بالإعدام قبل حتى أن يتسلم مهام الرئاسة فالنظام السابق لم يفقد سوى رأسه فقط وهو متغلغل فى كل مكان ونجح هؤلاء فى أن لا يتركوا للرئيس فرصة لكى يلتقط أنفاسه وينفذ أى شئ ملموس على أرض الواقع ولو نفذ شئ يتم إفشاله وحاصروا الشعب بالأزمات المصطنعة حتى تهتز ثقة الشارع به .. وفى الحقيقة أن مرسى ليس بدون أخطاء كأى بشرى فى الدنيا ولكنه تعرض لظلم بشع

أجرت فضائية «البلد» لقاء مع الصحافي مصطفى بكري أكد فيه أنه لن يعترف بمرسي حتى لو انتخبه الشعب وقد خاطب بكري مرسي وقتها: «حتى لو جئت رئيساً فانتخابك باطل» (23 حزيران/يونيو 2012)

و بعد شهور من اللقاء السابق (29 تشرين الثاني/نوفمبر 2012) سأل محمود الورواري، مذيع قناة «العربية»، بكري عن الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي آنذاك وأثار ضجة كبيرة: لو تراجع الرئيس عن بند أو بندين من الإعلان، هل ستقبلون؟ أجاب: «يجب أن يسحبه كله، ثم يعتذر للشعب، ثم يذهب إلى المحكمة الدستورية، فيقسم أمامها مجدداً، لأنه حنث بالقسم»

لم أقرأ في التاريخ القريب أن رئيس دولة تعرض لكل هذا الأذى التي تعرض له الدكتور مرسي .. هنا بعض الأمثلة: محمد أبو الغار، رئيس الحزب المصري الديمقراطي، قال معلقاً على الإعلان الدستوري الشهير إن مرسي ينظر إلى قراراته بوصفها أحكاماً إلهية، ويسير على خطى المستبدين كهتلر وموسوليني (العربية نت، 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2012)

ضيف آخر التقت به قناة العربية قال إن «مرسي فعل ما لم يفعله هتلر في ألمانيا، وموسوليني في إيطاليا، وفرانكو في إسبانيا». واستضافت القناة من قال: «أقترح أن يعلن مرسي نفسه خليفة، وأن يُغيّر اسم مصر إلى جمهورية مرسي العربية، وأن تصبح جنسيتي «مرسي» بدلاً من «مصري»، وأن يضع صورته على الجنيه»

ولا تظنوا أن هذا القصف كان بسبب الإعلان الدستورى فحتى قبل الإعلان الدستوري الشهير، كان القصف بالألقاب ينهال على الرئيس. الطبيب النفسي أحمد عكاشة زعم أن مرسي يفتقد الكاريزما، وقد يكون مصيره مماثلاً لمصير موسوليني وهتلر (المصري اليوم، 8 تشرين الأول/أكتوبر 2012)

انتشر في قنوات الفلول والمعادين للإسلاميين شيطنة الرئيس مرسي (demonization)، أو نزع الإنسانية عنه (dehumanization) بطريقة فجة ومقرفة في آن. الممثل حسين فهمي خاطب مرسي بقوله: «لا نريد أن يضعك التاريخ في خانة موسوليني وهتلر»

 مأمون فندي (فلولي وكاره للإسلاميين) زعم في صحيفة «الشرق الأوسط» أن مرسي أصبح «فرعوناً يتضاءل أمامه أي ديكتاتور عرفه التاريخ المصري الحديث» (3 كانون الأول/ديسمبر 2012)

 وهاجم عبد الرحمن الراشد (مدير قناة العربية وعدو لدود للإسلاميين ولحكم الشريعة) الإخوان زاعماً أنهم «أكدوا كل ما كان يقال عن فاشيتهم»، فهم «ليسوا أهل ثقة، وفي جوع شديد للحكم»، ولقد «حاولوا 80 عاماً الوصول إلى الحكم بالقوة وفشلوا فشلاً ذريعاً»، وهاهم يصفون الإعلاميين «بالكفرة الفجرة»، فصارت «الشتائم والتهديد والإقصاء .. سمات تجربة الحكم الإخوانية» (الشرق الأوسط، 3 كانون الأول/ديسمبر 2012)

والتقت قناة العربية بالمخرج خالد يوسف الذي قال: إن لم يتراجع مرسي «فسنسقطه ونحاكمه»، وفي صحيفة «اليوم السابع» خاطبت الممثلة شريهان الرئيس مرسي بالقول: «لقد أسقطت قناعك الزائف بيدك»! (23 تشرين الثاني/نوفمبر 2012)

ثم جاء العسكر، فسحقوا كل شيء بأقدامهم الغليظة وقبضاتهم الحديدية: اعتقلوا الرئيس المنتخب، كمموا أفواه الشعب، أغلقوا 17 قناة دينية، اعتقلوا قيادات الإسلاميين، منعوا اللاجئين السوريين من دخول البلاد، أعادوا فتح سفارة الأسد في القاهرة، أغلقوا معبر رفح، وقتلوا المتظاهرين السلميين وهم ركّع سجود في صلاة الفجر

والآن يصمت الجميع، وتتعرى الليبرالية الفاشية المتصهينة التي يعتنقها المتصهينون من العرب لا عدوان على الديمقراطية هنا، بل «تصحيح» لمسارها. ما حدث ليس «ثورة مضادة»، بل ثورة «ثانية». كالعادة، تدخل اللغة السياسية لتنزع الشرعية أو تسبغها

ربما كانت هذه أول مرة يُسمى انقلاب عسكري على حكومة مدنية بغير اسمه. البرادعي أبلغ صحيفة النيويورك تايمز بُعيد الانقلاب أنه «بذل جهداً كبيراً لإقناع السلطات الغربية بما وصفه بالخلع القسرى للرئيس محمد مرسي». ودافع البرادعي عن إغلاق الفضائيات الإسلامية بالقول إن «المسئولين عن الأمن قلقون، وقع زلزال، ولابد أن نتأكد من أن النتائج يمكن التبوء بها، والسيطرة عليها». (4 تموز/يوليو 2013). مفردات هذا الخطاب الاستئصالي ذاتها ترددت في صحف سعودية وخليجية

لكن الانقلاب فشل منذ اللحظة الأولى، ربما بطريقة فاجأت حتى الضحايا أنفسهم. الملايين من الشعب المصري الذين منحوا مرسي أصواتهم لم يسكتوا على سرقتها وازدرائها

وحده عبد الفتاح السيسي ومن يقف وراءه يتحملون عواقب الاعتداء على اختيار الشعب وقطعا ستعود الشرعية المتحصنة بالقوة الأخلاقية التي يستند إليها أنصارها، وبالتهافت المريع للجنرالات الانقلابيين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

AddThis